العلمانية والدين؛ جدلية الحياد والاستعداء

الرابط المختصر

 درَج معظم الباحثين في علاقة العلمانية بالدين على اتخاذ الأولى منطلقاً لبيان كنهها وجوهرها وحقيقة تأثيرها على الهوية الجمعية لمجتمع ما، لينتهوا بناءً على أحكام مسبقة إلى أن أثرها سلبي بالطبيعة والتكوين، فتكون النتيجة المحسومة سلفاً؛ هي غلبة الدين على العلمانية مضموناً وأثراً. والواقع أنه من النادر أن ينهج الباحثون نهجاً معاكساً بحيث يكون منطلق البحث متمحوراً في بدايته على تأثير الدين وأثره على ما يتجاوز الضمير الجمعي وهوية المجتمع إلى صياغة بنيته الثقافية ومنظومة سلوكياته العامة والفردية، ثم مقارنة ذلك بتأثير العلمانية على تلكم الأمور.

 إنّ هذا المسلك من جانب من الباحثين مرجعه -ولو في جزء منه- القداسة المفترضة للنصوص والمصادر الدينية التي تستعصي -من وجهة نظر هؤلاء- على النقد ابتداءً وذلك لأفضليتها الحتمية المستقاة من قداسة وعظمة مصدرها.

أفضى هذا النهج الذي يشيع لدى الكتاب العرب والمسلمين إلى وضع العلمانية دائماً في خانة الدفاع، وكأني بهم يمسكون بمبضع التشريح واضعين العلمانية والعلمانيين على طاولة الجراحة ليستخرجوا ما في داخلها من مضامين ونتائج نمطية مقولبة؛ متفحّصينها تحت مجهر الدين الثابت في مضامينه ونتاجاته المُنزَّه عن المقارنة أو المقاربة.

 هذا التناول “الديني” للعلمانية يعكس منهجية متعصبة محسومة النتائج حتى قبل الشروع في عملية التحليل والتأصيل، إذ أن مقارنة أو مقاربة المتغيّر بالثابت و”الوضيع” بـ”الرفيع”؛ هي مقارنة الأضداد غير المتناظرة التي لن يكن ثمة مجال لـ”الأقل” درجةً منها حظّاً في الغلبة أو حتى التساوي مع ضده أو نظيره. إذا كان من غير المعقول تناول دور الدين في التكوين البنيوي لمجتمع ما من منطلقات عدائية متعصبة، فإنه لا يمكن في المقابل التسليم بسداد منهج يقيّم العلمانية من منطلقات ترى فيها ابتداءً نهجاً أقل سويةً وفحوى.

إنّ أول ما يستشهد به المشتغلون بالعلوم الشرعية في نفي مشروعية الاحتكام أو حتى الاسترشاد بأي نظام غير إسلامي؛ هو آيات سورة المائدة واضحة الدلالة التي تصف “من لم يحكم بما أنزل الله” بـ”الكفر والظلم والفسوق”؛ حيث تمثل هذه الآيات القول الفصل في حكم الدين على من يُحكِّم “غير شرع الله”. وبغض النظر عن الخلاف الشكلي الذي ثار وما يزال بين “العلماء” حول نوع وطبيعة “كفر” من يحكم “بغير ما أنزل الله”، فإنّ منتهى المقال في هذا الصدد أن اتخاذ المرجعيات غير الدينية أساساً للحكم أو التشريع هو كفر أو معصيةً كبرى في أحسن الأحوال. ثم تأتي الروايات المختلفة عن الرسول التي تقطع بـ”هلاك” من “يزيغ” عن تحكيم الكتاب والسنة النبوية؛ لتتأكد مرةً أخرى أحادية مصدر الحكم والمنظومة القيمية للمجتمع المسلم بما لا يدع مساحةً للتنوع في المرجعيات الأخلاقية والتشريعية.

حاول البعض استقراء جانب من الأحداث التاريخية من منظور غير ديني ليدلّل على أن الإسلام قد عرف العلمانية ولو بأحد أشكالها السياسية، ومن ذلك عملية اختيار الخليفة الأول للرسول في سقيفة بني ساعدة، حيث يرى هذا الفريق أن المحاججة والنقاش حول شخص الخليفة الأول قد تجاوز الاعتبارات الدينية إلى اعتبارات دنيوية تتعلق بمدى تقبل العرب لخليفة يحكمهم من الأنصار وفضل المهاجرين وقبولهم عند غالبية العرب بوصفهم حكّاماً وقادة وزعماء…

هذه القراءة تنطوي على تكلّف شديد، فمن المعروف أن خلافة أبي بكر؛ إنما جاءت على إثر إمارات وإشارات أثناء حياة الرسول كان آخرها وأقواها استخلافه أبا بكر ليؤمّ الناس في الصلاة، هذا فضلاً عن صلاة الرسول نفسه خلفه، يضاف إلى ذلك أنّ خطبة أبي بكر بعد توليه الخلافة كانت  ذات مغزى ودلالات دينية وليست سياسية، فقد حسم جوهر الاختيار وأساس مشروعية الحاكم حين قال: “أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيته، فلا طاعة لي عليكم”، فالفيصل إذن تطبيق وتحكيم ما أنزل الله دون غيره في إدارة شؤون الدولة والمجتمع.

ولا يبدو استعانة العباسيين بغير المسلمين في شؤون الحكم بدوره دليلاً على تقبّل الإسلام للعلمانية السياسية، فقد كانت هذه الممارسات تتم بناءً على فتاوى وإعمالٍ لقواعد أصول الفقه من مثل: “الضرورات تبيح المحظورات، المصالح المرسلة، خيرهم لنا وفسقهم على أنفسهم…”، والشيء نفسه يقال عن انتشار الأقليات الدينية في عهد العباسيين وفي الدولة الأندلسية، فقد كانت تطبق عليهم أحكام الجزية كما نزلت في الكتاب، أما عن انتشار الفنون بمختلف أشكالها، فقد كان هذا بسبب تلاقي لعرب مع الحضارات الأخرى ونقلهم عنها وليس لكون هذا من أوجه علمانية الفنون أو الآداب، إذ أن من اتهموا بالزندقة من الأدباء أكثر ممن نجوا من هذه التهمة، فابن المقفع وأبو نواس وبشار ابن برد وكثيرون جلبت عليهم إبداعاتهم الويل والثبور وعظائم الأمور.

إنّ العلمانية بوصفها منهج لإدارة شؤون الدولة وتنظيم المجتمع، تعترف للكافة بحقوقهم بما في ذلك حقهم في الاعتقاد وإقامة الشعائر الدينية وممارسة العبادات وفقاً لأحكام دينهم، شريطة أن لا يتم فرض أي دين على الآخر وأن يكون مناط العقد الاجتماعي لأفراد المجتمع هو: مبادئ العدل والمساواة واحترام حقوق الإنسان والديمقراطية، بوصفها جميعاً تمثل مكونات المرجعية التوافقية للمجتمع وأركان الدولة. فالعلمانية إذن لا تنظر إلى الدين نظرة تشكك أو ازدراء بل قد تكون من نتائج تطبيقاتها حمايته من تدخل الدولة في شؤونه وشؤون أتباعه، بينما ينظر الدين إلى العلمانية بوصفها عدوّاً لدوداً وخطراً داهماً ينبغي محاربته؛ لأنها تدعو إلى حياد المرجعية واحترام الاختلاف والتنوع في ظل أيديولوجية أحادية القطب والاستقطاب.

 يعد خطيئةً وليس مجرد خطأ محاولة بعض مدعي العلمانية البحث عن أساس مشروعيتها في النصوص أو الأحداث الدينية، فهذا المنهج علاوةً على كونه مصادرةً على المطلوب، فإنه يمثل نفاقاً سياسياً واجتماعياً تأباه طبيعة العلمانية ومآلاتها.

 

مهند العزة: خبير دولي في التحليل القانوني وحقوق الإنسان، وكاتب في حقل الإصلاح الديني.