الإسلام، بين الإسلامويين والعلمانويين

الرابط المختصر

تعودنا كيساريين وعلمانيين على توصيف العاملين في الإسلام السياسي بأنهم “إسلامويون”، على نسق “الشعبويين” و”القومويين”، ولو أن الأخيرين حصلوا على توصيف تم نحته لهم خصيصاً، وهو “القومجيين”. و “الواو” الزائدة هنا تفيد التأكيد على أن أصحاب الوصف ينسبون نفسهم للشيء دون وجه حق، فيكون الإسلامويون بحسب هذه “الواو” ينسبون أنفسهم إلى الإسلام ويحاولون احتكاره دون وجه حق. وكذلك بالنسبة للشعبويين، والقومجيين (الجيم هنا تقوم مقام الواو) والسلطويين، إلخ… لكن هل يمكن تجنب التفكير بأننا أيضاً ينطبق علينا توصيف “يسارويين” و”علمانويين” في مقابل اليساريين الحقيقيين والعلمانيين الحقيقيين؟

الحق أن الإسلام يتعرض لأكبر عملية اختطاف يتعرض لها دين، مع أن السياق نفسه يتكرر تقريباً مع كل الأديان الكبرى. الإسلام كدين وكحضارة وتاريخ يتعرض لهجوم مزدوج من طرفين متعاديين: الإسلامويين ولا أقول الإسلاميين، والعلمانويين ولا أقول العلمانيين. الإسلامويون مصممون على رمي صورة الإسلام كما كانت قبل 1400 سنة (وربما أكثر حسب بعض الباحثين الذين يعيدون بعض العبادات إلى أصول في عادات وأديان أخرى أقدم بكثير) على واقع اليوم وواقع المستقبل وواقع كل الماضي عبر تلك السنوات الطويلة، بكل ما فيها من تعقيدات. العلمانويون يوافقون الإسلامويين على مبدأ عدم الاعتراف بتاريخية الإسلام، أي عدم ربطه بظروفه وتاريخه وسيرورته وتطوره، ويحاكمون أحداث مطلع الإسلام بمقاييس اليوم. ربما يكون الإسلامويون منظومة سياسية مالية بشرية متكاملة في مقابل جهود فردية لمن يمارسون العلمانوية (وليس العلمنة) ولكن الأخيرين يشكلون ظاهرة تحتل قطباً مهماً في الجدال الدائر حاليا وخصوصاً في الأردن.

فلنقارن إذاً، مع الأخذ بعين الاعتبار أن العلمانية لا تؤخذ بجريرة العلمانويين، كما أن الإسلام لا يؤخذ بجريرة الإسلامويين، ومع الأخذ بعين الاعتبار أن الإسلام دين والعلمانية طريقة لإدارة تعامل الدولة مع الأديان تضمن الحرية لأتباع كل دين ما داموا لا يؤثرون على أتباع الديانات الأخرى ولا على الدولة ككل.

الإسلامويون إذاً يريدون الإسلام المثال، الأصل، النظيف، كما يصفونه، أي اليوتوبيا الإسلامية التي تتمثل في دولة النبي محمد والخلفاء من بعده. كل ما ورد من أحكام واجتهادات ومواقف في وقتها يتم نسخه كما هو ثم إخضاع الحاضر له، ومحاكمة تفاصيل الحاضر وديناميات الحاضر بناء على تلك النسخة، على اعتبار أن الإسلام لا يتأثر بالتاريخ. لا يلحظ الإسلامويون أن الديانات الكبرى عملت كبوتقة صهرت فيها القوميات الكبرى، ثم صمد منها ما صمد وتفتت ما تفتت، وترك التاريخ خلفه أشياء كثيرة اعتمدها لبناء المدينة-الدولة ثم الدولة-الدولة ثم الإمبراطورية، ومن بين تلك الأشياء ترك خلفه الأديان، والتي لم تختف ولكنها تركت وظيفتها لغيرها، البرجوازية والإنتاج الرأسمالي، والتي تولت صياغة الأمم والدول. الأديان لم تختف حتى في الدول المتقدمة، ولكنها لم تعد قادرة على تشكيل دولة، وإلا كانت وحدت ماليزيا وأندونيسيا، أو استطاعت الحفاظ على وحدة باكستان وبنغلادش التين قامتا كدولة واحدة على أساس ديني، حتى مع تجاهلها التام للأديان الأخرى في نفس الدولة.

الإسلامويون يخوضون إذاً معركة خاسرة سلفاً لأنها ضد التاريخ. وهم ومهما راوغوا سيجدون أنفسهم إما أمام خيار التخلي عن الإسلاموية كما فعل حزب النهضة التونسي، أو معاناة نتائج الارتطام الخشن والقاسي ما بين الصورة الموجودة في أذهانهم من ناحية، والواقع من ناحية أخرى، وهو ارتطام يعبر عن نفسه باللجوء للعنف والإرهاب لا محالة.

الإسلامويون ونعرفهم ونعلم سوءاتهم، ولكن ماذا عن العلمانويين العرب؟ أولئك الذين يتحدثون عن داعشية محمد وخالد وباقي رجالات فجر الإسلام وتجاوزهم المعايير الإنسانية؟ أولئك الذين يريدون تطبيق اتفاقية جنيف بأثر رجعي! أولئك لو اعتمدوا التاريخية المقارنة بدلاً من المقاييس المعاصرة لوصلوا إلى نتائج أكثر علمية بخصوص زيجات النبي ونزق خالد، فقط إذا وضعوها في سياقها التاريخي ضمن ما كان يحدث في عالم ذلك الزمان. بل إنهم كانوا سيصلون إلى فهم أفضل لمصائر مسيحيي بلاد الشام بعد سيطرة الدولة الإسلامية عليها. ملاحظة مهمة ترد هنا على الهامش لا بد من ذكرها، وهي ندرة من يندبون الديانات التي كانت سائدة في العراق في مقابل وفرة في المثقفين الذين يتباكون على مصير مسيحيي بلاد الشام وقتها.

العلمانويون العرب أنفسهم لم يتعلموا من علمانيي أوروبا، ناهيك عن عمالقة العلمانية العرب. في السويد، على سبيل المثال، والتي تعد من أكثر دول العالم علمانية وإلحاداً تقوم الدولة باقتطاع جزء من الضريبة لصالح الكنيسة السويدية، وتقوم بالطبع بتزويد معابد الأديان الأخرى بدعم مالي. ولكن الكنيسة تحصل على المال مباشرة من الدولة. كما أن الأعياد الرسمية في معظمها هي أعياد دينية أو أعياد ذات جذور دينية، ربما باستثناء عيد العمال والعيد الوطني السويدي. وفي التعليم تقوم الكنائس دائماً بأنشطة مشتركة مع المدارس، ولكن بالطبع اختيارية. المهم ألا تتطاول أية مؤسسة دينية على أي دين أو مذهب آخر، وإلا فستخضع للمحاسبة القانونية. وتنطبق نفس الصورة في معظم دول أوروبا بدرجات متفاوتة.

العلمانويون العرب يضيعون إذاً جوهر الإسلام مثلما أضاعه الإسلامويون، وكلاهما يرفض الإقرار بأن الإسلام كان بمعايير عصره ثورة تهدف إلى العدالة الاجتماعية للجماعة والسلام الروحي للفرد، ضمن مسار تكوين أمة جديدة بين امبراطوريات ذلك العصر، وأن معايير عصره فرضت ممارسات كانت مناسبة جداً في وقتها لا يمكن تجريمها بمعايير اليوم، كما لا يمكن تجريم اليوم بمعاييرها. العلمانويون العرب لا يقدمون نقداً أكاديمياً تاريخياً لتطور الإسلام وتتابع الصور فيه مثلما فعل مفكرو العلمانية العرب، لكنهم بقوا أسرى الصورة التي عمرها 1400 عاماً والتي هي بالضبط ما يقدمها الإسلامويون كمرجعية.

 

علاء الفزاع: كاتب أردني مقيم في السويد

أضف تعليقك