استثمار التعليم أم تسليعه؟

الرابط المختصر

يبدو مصطلح الاستثمار من أكثر المصطلحات البراقة والجذابة في بلادنا، حيث حصل في العقدين الأخيرين على كل الاهتمام والعناية، وتأسست له هيئات ومؤسسات لتشجيعه وتزويده بكل ما يحتاجه، حتى صار كل شيء قابلاً للاستثمار بكل أنواعه وأشكاله، وربما صارت مؤسسات الدولة نفسها قابلة للبيع بوصفها مباني تقع في أراض مرتفعة السعر، ويمكن أن تنتقل إلى مكان أبعد في أرض بسعر أقل، وليس أدل على ذلك ما حصل مع أرض القيادة العامة ببيعها ونقلها ثم بيعها ونقلها مثلا، فأصبح نشيدنا الوطني الجديد يشدو باسم الاستثمار على أنه المنقذ من براثن المديونية والفقر، لكن مع ذلك لا المديونية انخفضت ولا الفقر انحسر.

قد نستطيع فهم هذا التوجه في عقلية تجار السياسة، لكنّ قاصمة الظهر حصلت حين تعاملت الدولة مع التعليم تحت عنوان الاستثمار، واختلط الحابل بالنابل حين لم يفرق دعاة الاستثمار بين مصطلحي “الاستثمار” و”التسليع”، إذ يعني الأول تقديم تعليم جيد منافس على مستوى العالم لتخريج كفاءات قادرة على صناعة الأفكار والإبداع الذي هو نتاج مُربح، ويؤدي لكسب الأموال، وإدخال العملات الصعبة، وتوفير فرص عمل للشباب في الخارج، أما الثاني “التسليع” فيعني تحويل العملية التعليمية بذاتها إلى سلعة قابله للربح، ويمكن تداولها واستغلالها واحتكارها، وتطويعها لنظرية العرض والطلب.

ظهرت نظرية الاستثمار بالرأس المال البشري في خمسينات القرن الماضي، حيث بدأ منظّرو الاقتصاد في البحث عن موارد جديدة خارج الأطر التقليدية للزراعة والصناعة، وتطورت هذه النظرية في دراسات الاقتصادي الأمريكي شولتز (وهو متخصص في اقتصاد التطوير، وقد ساهم في تطوير التعليم العالي في جامعة شيكاغو، ونال جائزة نوبل للاقتصاد سنة 1979(، فقد ركز اهتمامه على عملية التعليم باعتبارها استثماراً لازماً لتنمية الموارد البشرية، وبأنها شكل من أشكال رأس المال.

ومن خلال ذلك المفهوم أطلق على التعليم اسم رأس المال البشري، حيث يتحول هذا التعليم في نظره إلى وجه من وجوه الاستثمار، لأنه يصبح جزءا من الفرد الذي يتلقاه. وبما أن هذا الجزء أصبح جزءاً من الفرد ذاته، فإنه لا يمكن بيعه أو شراؤه، أو معاملته كحق مملوك للمنظمة. وبالرغم من ذلك فإن التعليم يعد شكلاً من أشكال رأس المال طالما أنه يتحول في المخرجات النهائية ليحقق خدمة منتجة ذات قيمة اقتصادية”.

فرغم أن شولتز قد تحدث عن استثمار التعليم إلا أنه في مفهومه الذي قدمه، وتحدث عنه، لم يقصد بذلك تحويله إلى سلعه تجارية، تدرّ أرباحا على تجارها، ولكنه قصد بذلك إكساب الفرد مهارات خاصة تساعده في زيادة الإنتاج في عمله، فالتعليم له جانبان، ثقافي واقتصادي، وهو يرى أن هناك بعض أنواع التعليم – إلى جانب فائدتها الثقافية – يمكن أن تحسن من طاقات وقدرات الأفراد اللازمة لأداء أعمالهم وإدارة شؤونهم، وأن مثل هذا التحسن يمكن أن يترتب عليه زيادة في الدخل الوطني. ويمكن القول بحسب ما يرى أن اعتبار كلّ من الآثار الثقافية والاقتصادية نواتج مشتركة لعملية التعليم. ويعني هذا أن الإسهامات الثقافية للتعليم تؤخذ كمعطيات يبدأ بعدها تحديد ما إذا كانت هناك بعض المنافع الاقتصادية للتعليم التي يمكن اعتبارها رأس مال يتم تحديده وتقديره.

لقد تمت عملية الاستثمار بعنوان براق، وهو مشاركة القطاع الخاص في تطوير التعليم، من باب المشاركة المجتمعية في عملية التنمية، وهذا أمر مهم وضروري، فعلى القطاع الخاص مسؤولية في التنمية والتطوير، والتعليم جزء مهم في ذلك، إذ إن الأمم المتحدة عرّفت المشاركة المجتعية في التعليم على أنها “العمليات التي توحد بين جهود الأهالي والسلطات الحكومية لتحسين الأحوال الاقتصادية والاجتماعية والثقافية تحقيقًا لتكامل هذه المجتمعات ومساعدتها الكاملة في التعليم القومي”. أو هي “الأنشطة التعليمية التي تستهدف تحسين جودة التعليم والتي تنفذ من خلال شراكة فعالة وإيجابية من مؤسسات المجتمع وتضافر الجهود الأهلية والحكومية لتقديم تدخلات ومساهمات عينية وغير عينية لإحداث تحسين في جودة التعليم”.

وكان المفترض أن تكون المشاركة لخدمة الأفراد من أجل الحصول على تعليم جيد، يضمن لهم الحصول على المعارف والمهارات التي تؤهلهم ليكونوا أكثر قدرة على الإنتاج في المستقبل، أي أن يستثمر القطاع الخاص بجزء من المال، ويسخرها في خدمة المجتمع، باعتبار ذلك جزءاً من مسؤوليته، مقابل ما يتوفر له من خدمات على حساب المواطنين وضرائبهم وأمنهم،  كما أن شراكة القطاع الخاص تشمل الاستفادة من الأبحاث العلمية والدراسات التي تنتجها الجامعات من أجل تطوير منتجاتها وتحسين مخرجاتها، سواء أكانت مادية أم معنوية.

يبدو أن ذلك الهدف لم يحصل، فدخل القطاع الخاص مستثمرا للسلعة، وليس مستثمرا في تنميتها، وأظن – وإن كان الظن لي إثما – أن هناك خلطاً متعمداً بين مفهوم الاستثمار الذي هو عملية تؤدي إلى التنمية البشرية، من خلال المسؤولية المجتمعية، وبين تحويل التعليم إلى سلعة، يتداولها رأس المال في الأسواق، دون النظر لما قد يخلّفه ذلك من ضغط على المواطنين، واستغلال حاجاتهم ورغبتهم في تعليم أبنائهم. لقد استطاع المسؤولون التجار بالفعل استثمار التعليم لتنمية جيوبهم، وليس لتنمية الفرد ليكون قادرا على مواجهة تحديات الحياة.

 

يوسف ربابعة: كاتب وباحث وأستاذ جامعي. له مجموعة أبحاث في مجال التعليم والفكر والسياسة، ومنها: تجديد الفكر الديني، الشعر والقرآن.