اتفاقية الناس الدولية

الرابط المختصر

يحذر البروفيسور الإسباني خوان هيرناندز زوبيزارريتا، الاختصاصي في دراسات التنمية والعلاقات الدولية، مما يسميه بـ”خصخصة القوانين” المحلية والدولية، وإعادة تأويلها لتصب في مصلحة رأس المال، ولعل أبرز من يتورط في هذه العملية هو النظام المالي العالمي والشركات العملاقة العابرة للقارات.

تمتلك اليوم بضعة شركات عابرة للقارات قوة اقتصادية تفوق الناتج المحلي الإجمالي لدول كبرى مجتمعة، ولديها قوة سياسية جبارة، ليس فقط من خلال علاقتها بالدول، إنما من خلال نفوذها في مؤسسات دولية مهمة مثل الأمم المتحدة، والدور الذي تلعبه في ما يعرف بـ”المبادرات عديدة الأطراف أو متعددة الشركاء”، وهو نموذج تتبناه الأمم المتحدة لتجلس جميع المعنيين على طاولة حوار واحدة من أجل إشراكهم جميعاً في الحوار والوصول إلى حلول ترضي جميع الأطراف.

غير أن ما يحدث بالفعل، هو ما يعبر عنه المحامي والكاتب الأمريكي باول ليهتو، أحد أبرز المنتقدين لهذا النموذج فيقول “عندما تمتلك الجماعات الضاغطة مثل الشركات قوة مؤثرة تخولها لكتابة مسودة القانون، فإن هذا يعد فضيحة في النظام الديمقراطي، لكن في النموذج المتعدد الشركاء، فإن هذه الفضيحة تتم على مستوى آخر، بحيث يمارس أولئك الذين يمتلكون قوة ضغط كبيرة دور المشرع، فيقومون بكتابة مسودات القانون، وتمريرها، وفرضها ولا يمتلك البقية حتى حق التصويت”.

ويتجلى منطق خصخصة القانون كذلك في المباحثات الجارية بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة حول ما يعرف بـ”اتفاقية شراكة التجارة والاستثمار العبر أطلسي”، التي يروج لها على أنها ستفتح الأسواق، وستلغي جميع الرسوم الجمركية، والعوائق القانونية، مما سيؤدي الى ازدهار الاقتصاد. إلا أن ما ستقوم به هذه الشراكة حقيقة هو تمييع وخلخلة القوانيين المتعلقة بحقوق العمال، وحماية البيئة، والحق العام، لتضعها في صالح القطاع الخاص. وحين تخذلها قوانين التجارة الحرة، ستغطي ظهرها قائمة طويلة من الاتفاقيات والمعاهدات الثنائية الملزمة التي تمكنها من مقاضاة الدول في حال تجرأت تلك الأخيرة على أن تنتصر للمصلحة العامة على حساب المصالح المادية للمستثمر الأجنبي.

تنتهك المفاوضات القائمة حول هذه الاتفاقية جوهر العملية الديمقراطية التي تتطلب الشفافية، وفصل تأثير القوى،  ومباحثات برلمانية، وتستبدل ذلك كله باجتماعات سرية تامة، في ممارسة بعيدة عن البرلمانات، والمواطنيين، ومن دون وجود تمثيل متكافئ للمجموعات الممثلة للحق العام.

يبدو أنه من السذاجة الاعتقاد بأن الآثار المدمرة لاتفاقية الشراكة والاستثمار عبر الأطلسي، في حال إقرارها، ستقتصر على شعوب الدول المشتركة في المفاوضات! فهي بحسب وصف وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة هيلاري كلينون ستكون بمثابة “ناتو اقتصادي”، وستكون الأداة التي ستواجه بها الولايات المتحدة وأوروبا الأقطاب الأخرى في العالم التي تمتلك ثقلاً في الشؤون السياسية والاقتصادية.

في المقابل، وفي تحرك مكثف ونوعي، اجتمعت المئات من المنظمات المدنية، والتحركات المجتمعية، والنقابيون، وخبراء القانون، والنشطاء من مختلف الخلفيات والجنسيات من أجل صياغة اتفاقية جديدة تعرف بـ”اتفاقية الناس الدولية”. تعد اتفاقية الناس مقترحاً بديلاً وجذرياً يهدف من جهة إلى اقتراح آليات عملية لإيقاف التجاوزات التي تقترفها الشركات الكبرى ضد حقوق الإنسان، ومن جهة أخرى، فإنها تقدم إطاراً من أجل تبادل الخبرات المتراكمة طوال العقد الماضي في النضال المدني ضد الشركات العملاقة، وضد أجهزة الدولة والمؤسسات المالية الداعمة لها.

وتهدف الاتفاقية لبناء التحالفات بين التحركات المجتمعية المختلفة من أجل استعادة الحق العام الذي يقبع أسيراً تحت سيطرة الشركات، ولعل أبرز ما جاء فيها هو البند الذي يلغي حق المستثمر الأجنبي في اللجوء إلى محاكم دولية في قضايا تمس المصلحة العامة وتزعزع السيادة الوطنية للدول. ويتوقع تسليمها فور الانتهاء من صياغتها إلى اللجنة المشكلة حديثاً من قبل الأمم المتحدة للوقوف على هذا الموضوع.

في خضم هذا المد المجتمعي الهائل، الذي يدفع باتفاقية الناس الدولية في مواجهة اتفاقية “شراكة التجارة والاستثمار”، يبدو أن مقاومتها تنحصر على جانبي الأطلسي، وتتراوح ردة الفعل في الأجزاء المتبقية من العالم بين مغيب أو مشكك بتأثير هذه التحولات الكبرى عليه!

 

وسماء الحسيني خبيرة سموم في قطاع البتروكيميائيات في هولندا، وباحثة في التحركات المدنية الخلاقة التي تعمل نحو عالم أفضل.

أضف تعليقك