ابن الرومي.. سلاح دمار شامل

الرابط المختصر

بقدر ما عُرف الشاعر الكبير ابن الرومي بجودة شعره وبراعته في وصف الطبيعة وشعر الفخر والمديح والهجاء وغيرها من صنوف النظم، بقدر ما اشتهر ليس بتشاؤمه فقط بل وبنذير شؤمه على كلّ من كتب عنه وراجع أعماله.

لقد أتت النار على ضيعته والتهم الجراد زرعه وغصبت داره، ليس هذا فحسب بل تربّص الموت فاختطف والده ثم والدته ثم أخوه الأكبر ثم خالته ثم زوجته ثم أولاده الثلاثة واحداً تلو الآخر… وبقي سوء الحظ يرافق الرجل حتى قضى مسموماً عن 59 سنة.

 كان من أجمل ما رثى به ابنه الأوسط قوله: “بُنَيَّ الذي أهْـدَتْهُ كَفَّـأيَ للثَّرَى * فَيَا عِزَّةَ المُهْدَى ويا حَسْرة المُهدِي، ألا قاتَل اللَّه المنايا ورَمْيَـها * من القَوْمِ حَبَّات القُلوب على عَمْدِ، تَوَخَّى حِمَامُ المـوتِ أوْسَـطَ صبْيَتي فلله كيفَ أخْتار وَاسطَةَ العِقْدِ”.

 قام الراحل عباس محمود العقاد بكتابة مؤلف عن ابن الرومي بعنوان “ابن الرومي حياته من شعره” متحدياً ما عرف من شؤم الرجل على كلّ من يتناول أعماله، بل ذهب إلى أبعد من ذلك فوضع تمثال بوم على مكتبه وهو يعمل على مؤلفه عن ابن الرومي، وكان رقم منزل العقاد (13) إمعاناً في تحدي الشؤم أو ربما التقرب له، ويروي أنيس منصور في إحدى مقالاته قصة عن شاب من ريف مصر بلغه شؤم ابن الرومي فقرّر تحدي ذاك الشؤم فكتب عنه بحثاً فما كان إلى أن قضى تحت عجلات حافلة ركاب عمومية بعد أن قام بفسخ خطبته فجأةً ودون مقدمات.

كثيراً ما نجد في الشؤم والحسد وغيرها من مرادفات الأسلحة الميتافيزيقية الفتاكة ملجأً من الحيرة في ما نواجهه من كوارث ومصائب وضنك العيش، لا أنسى إذ نسيت صديق عمري في إحدى الدول العربية الذي أهديته حذاءً صيني المنشأ، وكان صديقي يؤمن بالحسد و”العين” إيمانه بوجوده، حيث رمى بثقله على المقعد الخشبي المقابل لي لتتوسطنا طاولة اشتكى مفرشها من طول عمره؛ وكان ذلك في مقهى حقير صغير مغمور في أحد أزقة متفرعة من شارع رئيسي يعج بالمارة والدكاكين؛ فأخذ صديقي نفساً طويلاً من الأرجيلة ثم نفثه وفي نهايته تنهيدةً متذبذبة النغم أعرفها منه حق المعرفة، ثم قال: “حتى الجزمة حسدوها! النعل فلت من أول لبسة ووجدت تحت جلد النعل قطعة خشب”، حمد الله في نفسي أن الرجل برأني وبرأ قطاع صناعة النعال في الصين من ضعف الجودة وحمل المسؤولية لزوجة أخيه التي قال إنها رأته يرتدي الحذاء الجديد فباركت له وتغزلت بزوج النعال المنحوس!

البعض يلجأ لتعليق سوء الحال على الحسد والشؤم ربما لعدم استطاعته البوح بحقيقة الأسباب التي تقف خلف سوء حاله وحال غيره مثل الفساد وعدم التخطيط وعنت المسؤولين وصلف المسؤولين عنهم وإهمال مسؤولي المسؤولين عنهم… المهم في مجمل المشهد أن شعوبنا تحترف حرف الأشياء عن مسبباتها وردّها إلى ما لا يمت لها بصلة، فالكتمان والتكتم وعدم إشراك الآخرين بفرحتك بنجاح أو وظيفة جديدة أو ترقية أو زيادة في الراتب… كلها من المضامين الثقافية التي تكرس الانعزال والإقصاء وتزرع الفرقة وتفترض سوء النية حتماً وحكماً بالآخر.

لا ريب أن هناك من ينزعج من نجاح الآخرين لأنه يذكره بفشله وثمة من يمتعض من سعادة الغير لأنها تذكره بتعاسته التي هي في الغالب الأعم من صنع يده، إلا أن ردّ العثرات والتعثر في إنجاز عمل أو مهمة ما لـ”عين فلان… ونق علان… وحسد ترتان…” تعكس حالة الإنكار الجمعي التي نعيشها وورثناها؛ إذ يبدو منهج اتهام عيون الناس وعدم صلاتهم على النبي وذكر الله على كل شيء يخصنا ولو كان غير ذي قيمة؛ أكثر قبولاً عند شلة “حسدوني وباين في عنيهم” من الاعتراف بالتقصير ونقد الذات.

فلتضع حكومات الدول المتخلفة خرزةً زرقاء على أبواب مؤسساتها وبنوكها المركزية عسى أن يتحسن الأداء وتنخفض نسب العجز ويتراجع التضخم وتنقص المديونيات، وعلى أحزاب المعارضة وأعضاء البرلمانات أن يهدوا الحكومات المترهلة المتآكلة ديوان ابن الرومي ولتهدي الحكومات بدورها شروحات على حواشي ذلك الديوان؛ فترتاح الشعوب ولعل الله يقضي أمراً كان مفعولاً، لكن كل ما أخشاه مجزرة جماعية قد يرتكبها أحدهم إذا ما استخدم سلاح دمار شامل بأن يقرر تدريس شعر ابن الرومي لطلبة المرحلة الأساسية.