تفكيك الخطاب المناوئ للتمويل الدولي للمجتمع المدني

تفكيك الخطاب المناوئ للتمويل الدولي للمجتمع المدني

تطالعنا الحكومة بين الفينة والاخرى بموقف اوسلوك ضد منظمات المجتمع المدني لاسباب تتعلقبالترخيص او بالتمويل الدولي او لنشاطاتها أواجندتها، وسأناقش هذا الموقف من الجانبين السياسي والقانوني:

 

في الجانب السياسي :

انه لمن المستغرب ان دولة كالاردن تشكل المساعدات المالية والقروض الدوليةمن دول عربية واوروبية وامريكا واليابان وغيرهانسبة كبيرة من ميزانيتها، مع ما يشوب ذلك من نقد مجتمعي وسياسي كبير على اثر تلك المساعدات والقروض على اقتصاد الدوله وعلى اوجه انفاقها، وتعرض هذا التمويللإتهام لشبهاتالفساد واثره على سياسة واستقلال الاردن،خاصة من حيث ما يمليه صندوق النقد الدولي والبنك الدولي من شروط على الاردن، وضعفالرقابة الكافية المجتمعية وحتى البرلمانية على اوجه انفاق الحكومة لذلك التمويل. اقول انه لمن المستغرب ان تقبل الحكومة التمويل الدولي و يكون هنالك موقف لديها في حق المجتمع المدني في هذا التمويل في مبالغ تنفق على انشطة حقوقية واجتماعية ولا تشكل الا نسبة ضئيلة جدا من التمويل المقدم للاردن، وان يلقى التشكيك اهداف تلك المنظمات بسبب ذلك التمويل، في حين ان تنامي دور تلك المنظمات وحاجتها للتمويل كان احد اسبابه هو تلك الاخفاقات في تحقيق الاصلاح في الاردن خاصة الإقتصادي منه رغم التمويل الدولي الذي حصلت عليه الحكومةمع غياب التمويل الوطني الحكومي ومن القطاع الخاص ايضا لتلك المنظمات.

 

 

فعندما يأتي نقاش الإصلاح الاقتصادي فإن الحكومة تتشدق بالمعايير الدولية المتمثلة بالإنفتاح الإقتصادي وفق التجارب العالمية، وعندما يأتي نقاش الإصلاح السياسي تتشدق الحكومة بالخصوصية الوطنية مقابل التحفظ على عالمية المعايير والتجارب. ومن هنا فيتدفق التمويل بمئات الملايين على الشركات والقطاع الخاص الاردني دون رقابة مسبقة فيما يتم التحفظ على احقية المجتمع المدني بذلك.

وامام هذا المشهد يجري وبشكل متوازى خطاب هجومي غير عقلاني من بعض الاعلاميين وبعض الدخلاء على المجتمع المدني وبعض الافراد في السلطة في ذات الخطاب الرافض للتمويل الدولي للمجتمع المدني مغلفا باتهامات الخيانة الوطنية والجاسوسية وغيرها، وهنا اتساءل عن خفوت هذا الخطاب الرافض للتمويل الدولي الكبير لمؤسسات وطنية غير حكومية منشأة بدعم وتسهيل رسمي لتنفيذ ذات الانشطة التي يقوم بها المجتمع المدني ! ثم اتساءل ان كان هنالك جاسوسية وخيانة للوطن من قبل المجتمع المدني كما تدعي تلك الخطابات، فمن هي تلك الدول التي يتم التجسس لصالحها ! وهل لديهم دليل على ذلك؟ وهل تحتاج اصلا تلك الدول لمؤسسات المجتمع المدني لتحقيق تلك الجاسوسية؟ فالجاسوسية لديها وسائل اخرى تتمثل باشخاص من المفترض انهم مطلعون على معلومات وقريبين من موقع السلطة، وفي الوقت ان مؤسسات المجتمع المدني ليست على تلك العلاقات الحميمية والقريبة من السلطة. يضاف الى ان هذه الدول هي دول صديقة للحكومة الاردنية وتمتع بعلاقات طيبة معها وتحصل الحكومة على التمويل منها، فكيف يتم اتهامها بالجاسوسية!.

 

ويتوازى مع هذا الخطاب الهجومي ايضا، خطاب من قبل بعض الاحزاب والقوى الراديكالية والتي تتبنى معاييرا عبر وطنية اما قومية او اممية، فكيف يكون هذا التناقض ! ان هذه الأحزاب وشغلها الاساسي هو العمل السياسي وينبغي ان تكون وطنية وبعيدة عن اي تأثيرخارجي، بأن تؤمن بالمرجعية الفكرية والسياسية لخارج اوطانها وتتهم مؤسسات المجتمع المدني بحقها بالمرجعية العالمية ! ويبدو ان السبب لهذا التناقض هو حجم التراجع في مكانة تلك الأفكار التي تتبناها تلك الاحزاب وضعف القبول المجتمعي لها بالاضافة الى التحجيم الحكومي لها، خاصة بعد تراجع مراكز واهمية تلك الدول التي تتبنى تلك الاحزاب قيمها  منها في السياسة الدولية والعربية. فيما حل المجتمع المدني بديلا عن بعض اوجه ادوار تلك الاحزاب هي والحكومة، فبعض منظمات المجتمع المدني تقوم باداوار للدفاع عن حقوق الانسان وتنفيذ نشاطاتها الاجتماعية فيما ان هذه الاحزاب غير قادرة على تنفيذ ادنى برامجها او ايصال مرشحيهاالى البرلمان او حتى البلديات. ويبدو ايضا ان خبرتها التاريخية في تلقي بعض هذه الأحزاب لأجندات ودعم وما تحظى به من ترحيب من قبل العواصم الكبرى لها هو ما جعلها تظن ان مؤسسات المجتمع المدني تقوم بذات الأدوار التي كانت هي من يقوم بها.

 

 

وتبقى مسالة تتعلق باسباب اقدام الدول على تقديم الدعم الدولي في مجال حقوق الانسان للمجتمع المدني ( مع التذكير ان اغلب هذا التمويل يذهب للحكومة اكثر بكثير مما يذهب للمجتمع المدني)، وهنا لست بوارد تبرير اوتقديم تفسير كافي لذلك، ولكن اؤكد على ان من مستلزمات التعاون الدولي الذي نص عليه ميثاق الامم المتحدة واتفاقيات حقوق الإنسان هوتقديم المساعدة للدول النامية لتمكينها من الاعانة على حقوق الإنسان، بل وتتاسبق معظم الدول على طلب التمويل الدولي، ومثال ذلك صيحات ومناشدات الأردن في طلب الإعانة على تحمل اعباء اللجوء، بل ويتعرض المجتمع الدولي لنقد من قبل الأردن، حكومة ومجتمع مدني، في عدم كفاية هذا التمويل، بالإضافة الى ان ما يعانيه الأردن من تحديات اقتصادية واجتماعية في قطاعات مختلفة مما يجعله يلح بمطالبه للحصول على هذا التمويل. ان الدول الغنية تقدم ذلك التمويل لمساعدة الدول محدودة الدخل،وبلا ادنى شك ان جزءا ليس بيسير من تخلف دولنا هي نتيجة لبعض تلك السياسات الدولية بالاضافة الى اسباب ذاتية بالطبع.

 

في الجانب القانوني:

ان لمؤسسات المجتمع المدني اجندات بالطبع، ولكنها ليست مرتبطة بسياسات الدول المموله لها، بل ان اجندة المجتمع المدني مرتبطة بمعايير دولية مقرة من قبل الامم المتحدة وهي تتمثل بما نصت عليه اتفاقيات حقوق الانسان والاعلانات والبرامج الدولية الصادرة عنها، وهنا نؤكد ان الاردن بصفته عضو في الامم المتحدة فهو ملزم بتلك المعايير، لا بل ان الاردن شأنه شأن كل الدول قد ساهم في تطوير تلك الاتفاقيات واخراجها الى حيزالتنفيذ والمصادقة عليها، وهنا نذكر ان الاردن قد صادق على معظم تلك الإتفاقيات بل كان سباقا في المصادقة على بعضها، بل ساهم بشكل مهم في تطوير اتفاقية حقوق الاشخاص ذوي الإعاقة والنظام الاساسي للمحكمة الجنائية الدولية.

 

ومن هنا فإن اجندة حقوق الانسان تتمتع بالعلنية وليس بالسرية لأنها واردة في اتفاقيات حقوق الانسان وهي مشروعة بالطبع كونها عالمية وتتمتع بالقانونية وطنيا، وهنا اذكر ان الحكومة الاردنية تشير وبشكل واضح في كل تقاريرها المقدمة الى الامم المتحدة بانه يلتزم باتفاقيات حقوق الانسان تشريعيا وقضائيا وفي سياساتها وممارساتها، يضاف الى ذلك العديد من القرارات الصادرة من قبل محكمة التمييز الاردنية التي تعتبر ان الاتفاقية الدولية تسمو على القانون الوطني.

 

 

 

وان كان هنالك من لديه تحفظ على عالمية حقوق الانسان، فإن من حقه بالطبع مناقشة هذا الموضوع بحد ذاته، ولهذا النقاش ادواته في داخل الامم المتحدة بالمطالبة بتفعيل دور الدولة في صياغةتلك الاتفاقيات، وليس نقل النقاش على احقية تلك المنظمات في تبني تلك الاجندات والمعايير.

 

 

تنص اتفاقيات حقوق الانسان ومنها العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية واتفاقيات منظمة العمل الدولية وغيرها على حق انشاء مؤسسات المجتمع المدني بكل اشكالها السياسية والاجتماعية من منظمات حقوق الانسان والجمعيات الاجتماعية والسياسية والنقابات بكل استقلالية ودون تدخل من قبل السلطات، وفلسفة ذلك ان هذا حق للافراد دون سواهم في انشاء تلك المؤسسات دون تدخل من قبل السلطات سواء بالقانون او بالممارسة في انشاء مؤسساتها ونظمها الادارية والمالية وتنفيذ انشطتها دون اي موافقات مسبقة اوتدخل، واذكر ان هذا ما صادق عليه الاردن ومر بكل مراحله الدستورية، ولا يكون للقانون اي دور سوى بتسجيل المنظمة فقط، حتى من لم تقدم على التسجيل من قبل المنظمات فلها الحق في انشائها وعملها مثل النقابات المستقلة وغيرها، ولكنها من الممكن ان تفقد احقيتها في الادعاء بتمثيل الاكثرية اوالاعفاء الضريبي فقط دون المساس ببقية حقوقها.

 

ومن باب المساواة بين الافراد فليس من حق السلطات التدخل بعدد تلك المنظمات، قياسا للخطاب الرافض لتعددمنظمات حقوق الانسان والنقابات في الاردن، فإن تدخل السلطات سواء بالقانون او بالممارسة في تحديد عددها او حصرها يعد انتهاكا صريحا لمبدا المساواة بين الافراد واستقلالية تلك المنظمات، فحق انشاء المنظمات هو حق عين وليس حق كفاية.

 

 

اما في حال وجود ادعاء على قيام بعض تلك المؤسسات بتنفيذ انشطة خلافا لأهدافها المنشأة وحق السلطات في حلها ومعاقبتها وما يتعلق باحقيتها في التمويل الدولي، فنوضح ما يلي وفقا للقانون الدولي ومقارنة مع الواقع الدولي والمحلي:

 

 

اولا: ان حق المنظمات في الحصول على التمويل الوطني والدولي سنبغي ان يكون دون شروط. وهذا مؤكد عليه في القانون الدولي، فيما تخضع المنظمات الأردنية في الواقع لقيود على التمويل وتنفيذ انشطتها، حيث لا تحصل بعضها على الموافقات للتمويل والتدخل احيانا في عملها ومنع تنفيذ بعض الندوات سواء الممولة منها او غير المموله ايضا.

 

ثانيا: لا يجوز محاسبة المنظمة على انها تتبنى اجندة خلافا لما يسمى بالاجندات الوطنية، وهنا اتساءل ما هي الاجندة الوطنية ومن يضعها ؟ وهل تحظى بالشرعية اللازمة ؟ والاهم ان وجود منظمات المجتمع المدني من منظمات وجمعيات ونقابات واحزاب هو من اجل ان تكون لها اجندة مختلفة عن الحكومة من باب الحق في التعددية في الرؤى والافكار والاستراتيجات، والا فما الداعي لوجودها اصلا، وبالتالي لا يجوز ملاحقة المنظمة بسبب خلافها مع الحكومة.

 

ثالثا: ان منظمات المجتمع المدني تقدم على تنفيذ انشطة وبرامج تدافع عن حقوق الاردنيين وتعمل على تمكينهم، وان كان هنالك اي نقاش عن جدوى عملها فهذا حق للجميع في مناقشته دون تخوين لها، ومذكرين ان محدودية عملها مرتبط بمحدودية امكانياتها المالية بسبب غياب التمويل الوطني اصلا، ولنا في المقارنة مع منظمات مجتمع مدني في دول اخرى والتي تتحرك بانشطة وبرامج ضخمه تقدر بعشرات بل مئات الملايين وتعمل على مستوى العالم، فيما ان صغر ومحدودية عمل المنظمات الاردنية يجب ان يقودنا الى التفكير في تقوية تمويلها وقدرتها على العمل.

 

رابعا: كما لا يجوزملاحقة المنظمة في استخدام الآليات الدولية التي نصت عليها اتفاقيات حقوق الانسان والتي شرعها مجلس حقوق الانسان، من كتابة التقارير الموازيةاو تقديم البيانات الى اللجان التعاهدية او المقررين الخواص لحقوق الانسان او مجلس حقوق الانسان في الامم المتحدة وحضور الاجتماعات والمؤتمرات الدولية والالتقاء بممثلي الدول في الامم المتحدة عندمناقشة تقرير الاستعراض الدولي الشامل امام مجلس حقوق الانسان.

خامسا: ان حدث اية مخالفة لشروط التعاقد بين المنظمة والجهة الممولة، فإن من حق الممول الذهاب الى القضاء الوطني لملاحقتها لأنه هو صاحب المصلحة بناء على العقد، وهذا ما تنص عليه الاتفاقيات المبرمة بينهما في اختصاص القضاء الوطني حين نشوء اي نزاع، بالاضافة الى ما يمكن تنفيذه من عقوبات ادارية من قبل الممول كوقف او سحب التمويل لتلك المنظمة.

سادسا: ان اي اتفاق بين الممول والمنظمة يكون لاهداف مشروعه مثل تعزيز حقوق الانسان او التنمية، وهي سندا لاتفاقيات حقوق الانسان التي صادق عليها الاردن وميثاق الامم المتحدة، ولا يوجد اي نصوص خلافالذلك، ومن لديه اي ادعاء غير ذلك فليقدمه الى القضاء الوطني فورا.

 

سابعا: ان حدث اي سلوك جنائي بحت كالسرقة او الرشوة او الفساد، من قبل الممول او المنظمة الحاصلة على التمويل فيطبق عليه القانون الاردني دون مواربة، ومن لديه ادلة على ذلك فليقدمها للقضاء الاردني. وتنحصرالعقوبة على الافراد في المنظمة ولا يحق اغلاق المنظمة.

 

ثامنا: وبالطبع نحن نتحدث عن مؤسسات المجتمع المدني التي تطبق المعايير الدولية، اما ان انشأت منظمات ارهابية او تدعو الى خطاب الكراهية، فمن حق السلطات معاقبة المجرمين واغلاق تلك المنظمة غير المشروعة.

 

خلاصة القول ان الهجمة على مؤسسات المجتمع المدني في الأردن تتمتع بخطاب غير عقلاني وغير مبرر ولا تتفق والقانون الدولي، وتستفيد الحكومة من تغييب تثقيف الناس بالقانون الدولي في حقوق منظمات المجتمع المدني في العمل، ومن هنا فإنه لا بد من اعادة النظر بكل التشريعات ذات الصلة بانشاء وتمويل المجتمع المدني وعملها. وان هذه السياسة لا تخدم الاردن قانونيا وسياسيا وتضعها في موقع المواجهة مع المجتمع الدولي في عدم الالتزام بحقوق الانسان وخاصة حق المجتمع المدني بالعمل باستقلالية، لاسيما اننا في مرحلةمناقشة تقريرالأردن العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسيةالشهر القادم، ومناقشة الاردن في العام القادم لتقرير الاستعراض الدولي الشامل لحقوق الانسان. وهل هذه السياسة تتوافق مع التوجهات الملكية في تدعيم ركائز الدولة المدنية!.

 

أضف تعليقك