المرضى النفسيون في الأردن: جيش من المهمّشين

المرضى النفسيون في الأردن: جيش من المهمّشين
الرابط المختصر

كاتب المقال قد يكون ضمن نسبة الـ 15 إلى 20 في المئة من الاردنيين الذين يعانون أمراضاً نفسية، وفق دراسة رسمية أعدها فريق من أكاديميين واختصاصيين نفسيين أردنيين في العام 2009. وقد يكون مثلهم يسعى إلى إخفاء مرضه في بلد يعتبر فيه الطب النفسي عيباً ويُوصم المريض بالجنون.

الدراسة قدّرت عدد الاردنيين المصابين بالأمراض النفسية بـ مليون ونصف المليون شخص، من عدد السكان البالغ، وفق أرجح الإحصائيات، ستة ملايين نسمة.

دراسات أكثر حداثة، لكنها غير رسمية تكشف أن نسبة المرضى النفسيين تجاوزت الـ 25 في المئة، وتدق ناقوس خطر ارتفاع النسبة خلال سنوات المقبلة، ليصبح المرضى «أغلبية».

واقع مؤلم

حسب إحصائيات رسمية، فمن بين المليون ونصف المليون مريض الذين تكشف عنهم الدراسة لا يراجع مراكز الطب النفسي التي يتوافر فيها، بقطاعيها الحكومي والخاص 569 سريراً، إلا 20 ألف مريض سنوياً، أي بنسبة سرير لكل 10 آلاف مواطن اردني.

يتوزع المرضى النفسيون نسبياً على النحو التالي: الانفصام العقلي بنسبة 1 في المئة، والقلق بنسبة 6 في المئة، والاكتئاب بنسبة 10 في المئة، والرهاب الاجتماعي بنسبة 13 في المئة، والوسواس القهري بنسبة 4 في المئة، وهذا وفقاً لدراسة غير رسمية أعدها مختصون في الطب النفسي.

الصادم ليس فقط نسبة الأسرِّة المتواضعة، بل عدد الأطباء المختصين، حيث يتوافر طبيب نفساني واحد لكل 100 الف نسمة في الأردن، حسب الدراسة الرسمية، التي تكشف عن وجود ممرضتين نفسيتين فقط مؤهلتين. يا للتهميش.

أين يختبئ الرقم المتمم للمليون ونص المليون مريض ممن لا يراجعون المراكز الحكومية للطب النفسي؟ عدد قليل منهم - ليس موثقاً - يراجعون المراكز والمستشفيات الخاصة الباهظة الكلفة. غير أن الغالبية العظمى منهم يحاطون بالصمت ويجبرون على العيش بالظل بعيداً عن أعين المجتمع خوفاً من افتضاح أمر العائلة.

لذلك وأكثر

تشكل العوامل الاجتماعية والاقتصادية حافزاً لتفشي الامراض النفسية بين الاردنيين. ففي بلد ما يزال محكوماً بالعقلية الابوية في التعامل، تعتبر القسوة والعنف سمة للمجتمع. عنف في تعامل الآباء مع الأبناء، عنف يمتد ليحكم شكل العلاقة مع الزوجة والإخوة والأخوات وحتى الآباء عند الكبر، بل والمجتمع المحيط.

تكشف دراسة صادرة عن إدارة حماية الأسرة التابعة لمديرية الامن العام نهاية العام 2010 ارتفاعاً ملحوظاً في نسب العنف الأسري. الدراسة التي اجريت على 5811 حالة عنف أسري راجعت الإدارة خلال 11 شهراً، كشفت ان 54 في المئة يرتبط تعريف العنف لديهم بالضرب المبرح والضرب بأدوات حادة كالعصا والتهديد بالسلاح، فيما يرتبط لدى 13.5 في المئة بالعنف النفسي كالسب والشتم والتحقير والإهمال.

الدراسة أجريت على ضحايا العنف الذين امتلكوا الجرأة على تسجيل شكوى، في بلد لا تقدم الغالبية العظمى من ضحايا العنف فيه على الشكوى، وينظرون الى مراكز حماية الاسرة كمفسدة تسعى الى تدمير المجتمع المحافظ، مجتمع يستذكر خلال مساعيه حل الخلافات الاسرية التي تصل حد العنف امثالاً على غرار «ضرب الحبيب زبيب» و«مصارين البطن بتتقاتل».

وكالعادة، فإن النساء والاطفال هم الضحية الاولى للعنف الأسري، حيث تكشف الدراسة ان الزوجة والأم هما الأكثر تعرضاً للعنف بنسبة 40.6 في المئة، يليهم الابناء الذكور بنسبة 36 في المئة فالإناث بنسبة 17.5 في المئة.

وان كان العامل الاجتماعي محوراً رئيسياً في تغذية نسبة المرضى النفسيين صعوداً، فإن العامل الاقتصادي يلعب دوراً اكبر في بلد يعاني ازمات اقتصادية متتالية تنعكس مباشرة على المواطنين.

تقف البطالة سداً منيعاً في وجه الباحثين عن العمل، وقد سجلت نسبة 13.1 في المئة بين الاردنيين في سن العمل، حسب احصائيات الربع الاول من العام 2013، وهي مرشحة للزيادة.

ويزيد من فرص مرضهم، ان 80 في المئة من الاردنيين يرزحون تحت خط الفقر المحدد بـ 1124 دولاراً (800 دينار)، حسب مسح نفقات دخل الاسرة للعام 2010، فيما تتمدد النسبة لتشمل شريحة أكبر مع ثبات الدخول في ظل الارتفاعات المتوالية للأسعار، انسجاماً مع سياسة تحرير الأسعار التي تنتهجها الحكومة الاردنية تطبيقاً لاشتراطات صندوق النقد الدولي.

تحديات دون حلول

 لا تعدو الصحة النفسية ديكوراً في المنظومة الصحية الحكومية، إذ تفتقر مستشفيات ومراكز الطب النفسي التابعة لوزارة الصحة لأدوات معيارية حديثة للاختبارات النفسية، وهي ما زالت تعتد باختبارات تعود الى خمسينيات القرن الماضي.

وتنصب جهود العلاج على الأدوية الكيماوية، في الوقت الذي يتجه فيه العالم الطبي الى توظيف العوائد المجزية لعمل الفريق المهني في خدمة المريض وأسرته، وأن يصل الى مرحلة المعافاة والشروع في تقديم خدمات التأهيل أو شموله بها.

على الجانب الاخر، تبدو الصحة النفسية في القطاع الخاص حلماً بعيد المنال للغالبية العظمى من المرضى الراغبين بالعلاج، حيث الكلفة الباهظة وسط مواصلة التأمين رفض شمول المرضى النفسيين بمظلته. إضافة الى الكلفة العالية، جنح القطاع الخاص الى معادلة الربح والخسارة، فاستعان بجيش من العاملين غير المؤهلين بحثاً عن عمالة رخيصة انتجت في المحصلة انتهاكات موثقة في مراكز الرعاية. وهي انتهاكات كشف عنها مطلع العام 2012 تحقيق استقصائي بعنوان «خلف جدران الصمت»، أثار في حينها غضب الملك الاردني وأمر بفرض رقابة لم تغير من الواقع شيئاً.

غير أن أصعب تحدٍ يواجه الرعاية النفسية في الاردن هو قهر الصورة النمطية للمرض ووقف التعامل معه كعيب ويُحاط بصمت اجتماعي. تحديات تحتاج إرادة للتغيير... قبل أن يصبح المرضى أغلبية في الاردن.

السفير العربي