آسيا مصغرة" في قلب بلدة الظليل"

آسيا مصغرة" في قلب بلدة الظليل"
الرابط المختصر

 

ما إن تميل شمس عصر يوم الخميس من كل أسبوع، حتى تنتصب الأكشاك والخرابيش وتُمد البسطات على جنبات شارع المصانع في الظليل، وتُنثر فوقها أصناف وألوان من بضاعة بعضها لم يعرف له أبناء البلدة من قبل مثيلا.

 

ولا تكاد تمر دقائق إلا وترى أسرابا من البشر تنسل من كل حدب إلى الشارع، ولكأنهم على موعد، ليحل مكان الهدوء الذي كان يعم المكان هدير أصوات مساوماتهم مع الباعة، والتي يرطنون فيها بما لا تكاد تفقه منه قولا.

 

أهلا بك "صديق"، أنت الآن تدخل "آسيا مصغرة" نمت في قلب الظليل على مدى السنوات القليلة الماضية، وباتت تتجلى في أوضح صورها ضمن هذه السوق، والتي يؤمها الآسيويون العاملون في مصانع الظليل عند نهاية كل أسبوع.

 

وكلمة "صديق" هي ما درج هؤلاء على الاستهلال به عند مخاطبتهم أهل البلدة، وذلك من باب التأدب والتودد، ولكنها لم تلبث أن أصبحت "علامة مسجلة" تستخدم للإشارة إلى الواحد منهم والدلالة على أنه "بنغالي" أو "سريلانكي" أو "هندي".

 

ويمكن بوضوح سماع هذه الكلمة تتردد على السنة كنترولية الباصات خصوصا، والذين تجدهم يقفون عند أطراف السوق، وينادون بها على أبناء تلك الجنسيات ممن يرغبون في التوجه إلى الزرقاء للتبضع، حيث الأسواق الأكبر حجما والأكثر تنوعا.

 

وحتى سنوات خلت، كانت الزرقاء مقصد التسوق الأول للعمال الوافدين في الظليل، والمقدر عددهم بنحو 13 ألفا معظمهم من بنغلاديش، لكن ذلك تغير مع ظهور السوق الحالية في البلدة، والتي أصبحت تجتذب أعدادا متزايدة منهم، لما توفره من بضائع طالما ألفوها في أوطانهم.

 

وأكثر من ذلك، فقد باتوا يجدون في هذه السوق باعة يتحدثون لغاتهم، سواء من أبناء جلدتهم أو من أهل البلدة ممن غدوا ملمين بتلك اللغات جراء المخالطة والممارسة، وأيضا مزاملة الآسيويين في أماكن العمل.

 

ففي هذه السوق، والتي تبلغ ذروتها يوم الجمعة، تجد أصناف فاكهة استوائية وخضروات أشكالها أغرب من أسمائها بالنسبة لأهل البلدة، وبهارات لأذعة فوق الاحتمال، لكنها تطيب لمن اعتادها من أبناء البلاد الحارة.

 

وبعض تلك الفاكهة تاتي من الخارج، لكن كثيرا من الخضروات تجري زراعتها في الأردن من قبل أشخاص ذوي أصول آسيوية، كما هي الحال مع معروف أبو نورس، وهو بنغالي متزوج من أردنية ومقيم في البلدة منذ سنوات بعيدة.

 

وتوثق السجلات الرسمية 24 واقعة زواج بين أردنيات ووافدين من الجنسيتين البنغالية والباكستانية في محافظة الزرقاء خلال السنوات الأربع الماضية، وهو رقم يقترب مما تم تسجيله في العاصمة عمان لذات الفترة.

 

وأبو نورس، حسبما يخبرنا، تخلى عن العمل في المصانع بعدما وجد أن الزراعة تدر مردودا أوفر، وهو ينتج المحاصيل عادة في منطقة الحلابات شرق الظليل، لكن الصقيع الذي أتى محاصيل الموسم السابق جعله يتجه إلى الأغوار هذه السنة.

 

ومما يبيعه أنواع من الفجل والسبانخ ذات ألوان وهيئات غير مألوفة في الأردن، لكن أبناء جلدته لا يطيقون انتظار نزولها إلى السوق، حيث يتلقفونها بحنين واشتهاء، ويجزلون العطاء في مقابل الحصول عليها.

 

ولا يجد أبو نورس اختلافا يذكر بين الخضروات البنغالية والأردنية، اللهم سوى من ناحية الشكل، وهو استنتاج ربما خلص إليه من خلال تجربته الشخصية لكلا الصنفين، وأيضا عبر ردود أفعال وانطباعات أهالي البلدة ممن جربوهما.

 

وفي هذا إشارة إلى شكل من تبادل الثقافات، والذي أصبح بحكم الأمر الواقع نتيجة اختلاط وتعايش الأعداد الكبيرة نسبيا من الآسيويين مع مواطني البلدة البالغ عددهم 25 ألفا.

 

ويمكن تلمس ذلك في نطاقه الضيق من خلال الحياة العائلية لابي نورس الذي يجيد العربية، وقال إنه أصبح من عشاق المنسف الأردني، وفي نفس الوقت نقل إلى ابنائه وزوجته شغفه بالأرز المفعم بالتوابل الحريفة كالفلفل والزنجبيل والثوم .

 

كما أنه تستهويه الحلويات الأردنية، وأصبحت زوجته بدورها تتقن صنع حلويات أهل بنغلاديش، مثل "المشتي" المؤلف من الحليب والسكر والسميد والمكسرات، و"المشبك" أو "زلافيا" العيد الذي قوامه الشعرية والزبيب والقرفة وجوز الهند.

 

وعلى نطاق التبادل الأوسع، فقد باتت تنتشر حالات تقليد من بعض بنات البلدة للآسيويات من حيث ثقب الأنوف ووضع الحلقات فيها، وكذلك أنواع من قصات الشعر التي يتشبه بعض الشبان من خلالها بالعمال الآسيويين.

 

ويقاس في ذلك أيضا أنواع من الثياب، مثل الساري، والتي هي تباع الآن في محال متخصصة في الظليل، وصارت بعض نسوة البلدة يظهرن ميلا اليها، وإن كان ذلك على مستوى محدود.

 

على أن الشوط لا يزال بعيدا بالنسبة لأمور أخرى لا تجد بعد تقبلا من الجانبين، كعادة مضغ الآسيويين لنوع من اللبان ذي رائحة غير مستحبة ويصبغ اللسان والأسنان باللون الأحمر، لما يدخل في مكوناته من الشومر وجوز الهند.

 

وهذا اللبان على صنفين، أحدهما حلو المذاق مخصص للإناث، والآخر حار يقبل عليه الرجال ويضاف إليه التبغ.

 

وفي الجهة المقابلة، لا يزال الآسيويون معتادين خبز الأرز ولا يرتاحون لخبز القمح، وكثير منهم يلجأون إلى الخبز المحمص كبديل، رغم أن بعض المحال التجارية بدأت في الآونة الأخيرة بتوفير دقيق الأرز إلى جانب أنواع أخرى من الأطعمة التي يفتقد إليها هؤلاء الوافدون.

 

وفي ما يراه مراقبون، فإن الزمن كفيل بصهر العادات بين الشعوب، وخصوصا إذا ما كان هناك مشترك يجمعها، سواء كان الدين أو اللغة أو التاريخ، وفي حالة البنغال، فإن المشترك هو الإسلام التي يعتنقه نحو 90 بالمئة من سكان بنغلاديش.

 

أضف تعليقك