كانت لحظة ضياع كبرى..
هكذا يصف دولة الاستاذ طاهر المصري في تقديمه لهذا الكتاب تلك الفترة من تاريخنا الحديث الذي تشكل وسط زلازل سياسية وعسكرية جعلت المشرق العربي برمته مجرد عجينة لينة تشكلها الامبراطوريات المنتصرة في الحرب العالمية الأولى وكأنه بكل ما فيه وما عليه مجرد متاع يتقاسمه المنتصرون كغنائم سهلة..
وكانت لحظة ضياع كبرى لأسباب عديدة..
فقد سقط حلم الدولة العربية الموحدة وعاصمتها دمشق بعد هزيمة المشروع الاستقلالي لسوريا في معركة ميسلون 24 / 7 / 1920 والتي اسقطت بسببها حكومة المملكة العربية السورية بقيادة الامير فيصل بن الحسين.
ورفضت حكومتا بريطانيا وفرنسا مقترحات وتوصيات لجنة كنغ ــ كراين المتضمنة مطالب ورغبات الشعب العربي في سوريا بتاريخ 28 / 8 / 1919، وبعدها بنحو اسبوعين وبتاريخ 15 / 9 / 1919 تتفق الامبراطوريتان على ان يكون العراق وشرقي الاردن تحت الانتداب البريطاني وبقاء القوات البريطانية في فلسطين.، وانسحاب بريطانيا من سوريا على ان تحل محلها القوات العربية السورية.
هذه صورة أولية في ألبوم حالة الضياع الكبرى، فقد كانت سنة 1920 حالة فاصلة تؤسس لما سيأتي بعدها، وأظننا لم نزل حتى وبعد انقضاء قرن كامل نعيش إرهاصاتها وتداعياتها...
هذا الكتاب والجهد البحثي الذي بذله مؤلفه الاستاذ محمد رفيع يضع أمامنا الألبوم الكامل لتشكلات حالة الضياع، وحالة البحث عن وطن، وحالة تشكل الكينونة الأردنية التي بدأت بجهد أردني شعبي قبل ان تبرز لدى بريطانيا الفكرة القائمة على معادلة "جلب الرضا لتحقيق المصالحة والأمن " في منطقة كانت في ذلك الوقت تمور مورا بالصراعات والخلافات.
هذا ما توضحه الوثائق التي رجع المؤلف اليها والبالغ عددها 620 وثيقة قالت عن شرق الأردن كل شيء باعتبارها السلطة المهيمنة على اقليم يهدد استقرار بريطانيا فيه، سواء بسبب هجمات العشائر، ورفض وعد بلفور، ورفض الهجرة اليهودية وغيرها من الجهود الشعبية الأردنية المناوئة لبريطانيا ولليهود وهجراتهم المنظمة.
الأستاذ محمد رفيع يورد العشرات من الوثائق البريطانية التي كانت ترصد الحراك الشعبي الأردني في تلك الفترة التي سبقت صدور وثيقة أم قيس، كما سبقت تأسيس إمارة شرق لأردن، تاركا للباحثين والقراء استنطاق تلك الوثائق بأنفسهم، وتركها بدون تعليق منه لتشكل صورة وثائقية شبه مكتملة عن حالة شرق الأردن في تلك الفترة.
ولن أعرج على الوثيقة في تفاصيلها ومطالبها، لكن ما يوجب التوقف عنده مطولا هو مطالبتها بفرض الإنتداب البريطاني على جزء من الشمال الأردني، وبأمير عربي يحكم تلك المنطقة " إربد وعجلون وجرش والمفرق"، بل والمطالبة بضم لواء حوران وقضاء القنيطرة إلى هذه الحكومة، متمنية ضم قضائي مرجعيون وصور، تحت الإنتداب البريطاني وأن لا يكون لهذه الحكومة أي علاقة بحكومة فلسطين، وأن تُمنع المهاجرة الصهيونية بتاتاً إلى داخلية هذه الحكومة، ومنع بيع الأراضي لليهود ..الخ.
المطلب المثير للجدل والتساؤل هو الطلب من بريطانيا وضع هذه المنطقة وضم مناطق أخرى من الجنوب اللبناني تحت الإنتداب البريطاني وهو ما يحتاج للمزيد من التفسير، وهو ما يدفعني للدعوة لأن يكون لدينا في الأردن جيل واع من الباحثين المؤرخين الذي يتولون إعادة كتابة تاريخ أردننا الحديث على ضوء الوثائق، وليس اعتمادا فقط على المرويات الشفوية وأحيانا على الأهواء.
ويكفي التأشير فقط على أهمية ما أحدثته وثيقة أم قيس هو اعتمادها من قبل لجنة الميثاق الوطني باعتبارها إحدى الوثائق التأسيسية لمباديء وقيم الميثاق الوطني"1990 " الذي تنكرنا له مبكرا، وتركناه مجرد وثيقة يحكمها الإهمال والترفع عنها.
هنا يستذكر دولة الأستاذ طاهر المصري في مقدمته للكتاب وثيقة أم قيس وأثرها في الميثاق، وأقتبس مما كتبه( في العام 1990 حين كنت مقررا للجنة صياغة الميثاق الوطني الأردني أذكر أن إدخال بند "وثيقة أم قيس " كإحدى الوثائق المؤسسة لتاريخنا الوطني الحديث قد أخذ حظا وافرا من الحوار، وبمشاركة إخوة كثيرين، وعلى رأسهم أخونا شيخ المؤرخين الدكتور محمد عدنان البخيت...وها هو هذا الكتاب يحيلني الى مناخات حوارات الميثاق الحارة،وما كان يعلق عليها من آمال بل واكثر من ذلك، فهو يعيد القاريء الى تفاصيل التفاصيل الموثقة حول تلك الوثيقة وزمنها ورجالها. ) ــ انتهى الاقتباس ــ.
وأجدني في هذه العجالة أسأل بداعي المعرفة والتعرف، هل فقدنا القدرة على تجذير الماضي العتيق في الحاضر الحديث؟ وهل أننا فقدنا الجرأة على استنطاق الماضي بروح العصر، وكتابة الحاضر بروح الجرأة والحرية والموضوعية والإستقلالية؟
والسؤال الذي أجده أكثر مشروعية :
هل لدينا تاريخ حقيقي وموضوعي معادي ومناهض للشعب وللدولة؟
هذا السؤال ربما سيجيب عنه مؤرخونا الذين ننتظر أن يشكلوا في المستقبل مدرسة أردنية جديدة لإعادة قراءة ماضينا الحي الذي لم يزل يعيش بيننا ويحكمنا..
ــ النص الكامل غير المنقوص لكلمتي التي ألقيتها في تقديمي لحفل إشهار كتاب " وثيقة أم قيس وملاحقها وسياقها التاريخي " لمؤلفه المهندس محمد رفيع في المركز الثقافي الملكي مساء أمس الأحد.