نوّاب الفَنْكْوش
"الفنكوش" مصطلح مصري متداول يعبّر عن أي عمل بدون ملامح ولا قوام يتم تضخيمه وصناعة هالة من البروبغندا الإعلاميّة حوله، حيث اقتُبِس هذا المصطلح من فيلم تم إنتاجه منذ حوالي 37 عاماً عنوانه "واحدة بواحدة" بطولة عادل إمام وميرفت أمين تدور أحداثه حول إعلان أنتجته الشركة التي يعمل بها إمام لمنتج غير موجود سمّاه الفنكوش مجاملةً لراقصة لديها رغبة مرضيّةً جامحةً في الظهور والشهرة؛ لتنهال الطلبات على الشركة المعلنة للحصول على هذا المنتج الوهمي، فعهد إمام إلى أحد العلماء اختراع أي منتج استهلاكي تحت اسم "الفنكوش" لتلبية الطلب المتزايد عليه.
نوّاب الشعب عندنا احترف عدد منهم صناعة "الفنكوش" وأصبحوا يتنافسون في ما بينهم على صدارة الترند في تويتر وفيسبوك وعناوين المواقع الإخباريّة، في محاولات بائسة لستر سوء الأداء وهزليّته وللإعلان عن وجودهم، فإذا أراد أحدهم أن يعرفه الناس ويتعرّفوا على اسمه ورسمه، يفتعل "فنكوشاً" مع زميل أو زميلة له أو مع رئاسة المجلس أو أحد الوزراء أو مسؤولي الدولة، مع ترتيب مسبق مع أحدهم لتصوير "الفَنْكَشَة" وتوزيع المقطع ونشره على نطاق واسع. فالملاحظ أنّ نوّاب "الفنكوش" لا تعلم بوجودهم أصلاً إلّا حينما "يُفَنكِشون" وتبدأ أخبارهم بالتداول سخريةً واستهزاء، فلولا "فناكيشهم" لدخلوا المجلس وخرجوا منه دون أن يسمع عنهم أحد سوى عائلاتهم وقلّة ممن صوّت لهم.
تراوحت "فناكيش" النوّاب ما بين البلطجة بأقبح وأعنف أشكالها، وعروض السرك الروسي القديم بأسخف وأمَلّ فقراته، فمن إطلاق النار من سلاح آلي في بهو البرلمان إلى التلويح والتهديد بالمسدس تحت القبّة... مروراً بالقصف المتبادل بزجاجات الماء ومتكّات السجائر، انتهاءً بـ "فنكوش" النائب السابق أسامة العجارمة ثمّ أخيراً وليس آخراً "فنكوش" مقعد رئيس الوزراء الّذي ذكّر الناس أنّ المجلس منعقد أصلا.
هذه التصرّفات المسرحيّة التي تعكس عدم نضج سياسي وتسوّل شعبويّ؛ تؤكّد للمواطنين صواب نظرتهم المتشكّكة في الأهليّة السياسيّة للبعض لتمثيلهم وتزيد يقينهم بأنّ المجلس أضعف من أن يكون له تأثير فعلي على قرارات الحكومة، الأمر الّذي أكّده غير نائب في أكثر من مناسبة عبر تصريحات أعربوا خلالها عن امتعاضهم من ما وصفوه بـ "تجاهل الحكومة لهم وعدم اكتراثها بمقترحاتهم ومطالباتهم وأسئلتهم".
ما لا يدركه البعض أنّ التأثير في المشهد السياسيّ لا يُستجدى ولا "يُفَنْكَش"، وإنّما يُفرَض فرضاً من خلال استخدام الأدوات الدستوريّة الكثيرة المتاحة والعمل السياسيّ البرلمانيّ المنظّم المرتكز على الحشد واستقطاب التأييد لمقترحات أو أسئلة أو حتى استجوابات تستند إلى المعلومة والدليل والتحليل.
ربّما نجح نوّاب "الفنكوش" في جعل أسمائهم تتصدّر الترند لأيام أو أسابيع على وسائل التواصل الاجتماعي، لكنّهم حتماً فشلوا في كسب احترام الشارع والحيلولة دون اتخاذهم مادّةً للسخرية في التغريدات والسكيتشات الكوميديّة والرسوم الكاريكاتيرية المتداولة، فما يتغافل عنه هؤلاء هو أنّ اليوم ليس كالبارحة، فمصادر المعلومات وتجارب الآخرين النموذجيّة في مجال العمل البرلماني التي باتت في متناول الغالبيّة الساحقة من أفراد الشعب يتصفّحونها ويطّلعون عليها نياماً وقعوداً وعلى جنوبهم؛ جعلت وعيّ معظمهم عصيّاً على العبث والتشويه، مع وجود استثناءات -بكلّ أسف- تطفو على السطح مع كلّ "فنكوش" جديد.
قد تتمكّن لجنة تحديث منظومة الحياة السياسيّة من الخروج بقانون انتخاب وقانون أحزاب أفضل من القانونين النافذين، لكن ما يستحيل عليها وعلى غيرها فعله هو؛ إنتاج حالة سياسيّة برامجيّة ناضجة من المكونات البشريّة والفكريّة الراهنة التي تتصدّر المشهد وتسيطر عليه، فالتشريع وإن أوحيَ به من السماء، لن يقوَ على إحداث تغيير إيجابي ما لم يؤمن به المخاطبون بأحكامه، لذلك فإنّ الأمل منعقد على جيل يتربّى ويعيش بعيداً عن الدراويش أصحاب الفناكيش.