مساءُ غزة..
هذا المساء مسجى في حضن البدايات، قلت للذي مرَّ سريعا بقربي، قف قليلا لأسأل عن أول الداخلين وآخر الخارجين إلى الموت المفضي للبدايات.
ثمة مقاعد خالية على شاطيء لا يحتمل القسمة على الطبقات، وثمة أطفال تناولوا فطورهم الأخير من الأسودين الخبز والشاي ومضوا يلهثون خلف كرة من قماش، لعلهم يلتقون بأحلامهم وسط ساحة ركضهم في ميدان "اللعبة الكبرى".
قفوا قليلا يا أولاد الحيارى اللاجئين من بيت إلى بيت، ومن حرب إلى حرب، ومن موت إلى موت، قفوا قليلا لنختبيء من رذاذ الرصاص، قفوا لنتعلم شيئا عن حب الحياة، بدلا من الإغراق في حب الموت والحرب.
ذهب اللاعبون الصغار إلى لعبتهم، ودخل اللاعبون من تحت رمل الشاطيء الأبيض، من داخل الموج الأبيض، من تحت أرجلهم الصغيرة، ومن فوق رؤوسهم ووجوههم الداكنة، فالشمس أيضا أخذت نصيبها من لحمهم.
ثمة مطر يتصاعد من السماء يغسل ما تبقى من لحمهم، افتتن اللاعبون الصغار بمطاردة كرة القماش، ولا حكم داخل لعبتهم لينهر مطر الموت عن ملاحقة الضاحكين المتعبين داخل قلب اللعبة الكبرى.
نهض الموت على أجفانهم، ركض القاتل داخل جعبته، واستسلمت الأيادي الصغيرة لرمل كاد يسخن قليلا من ركض الأرجل الصغيرة الحافية..
قف قليلا لأرى ما يراه المغني، يا طفل غزة المقتول على الشاطيء قف قليلا لتدلي بشهادتك الأخيرة عن تعدد القتلة على جثتك، وتزاحم الحبيب والقريب والغريب على لحمك الإلهي.
قف قليلا يا طفل غزة، قف لتقول لنا عن شهوة القاتل وشهوة القريب في أن يراك مسجى في حضن البدايات، وكأنك الوحيد في هذا الكون الذي يشتهي كرسيه وطعامه ونساءه..
ويا أطفال غزة على درج البحر الأبيض
كل هذا البياض الذي ترونه بعض لحمكم ودمكم .. وفُرجتنا عليكم..
وغزة اليوم النشيد بين كوكبين مالحين، وإلهين يناقشان فكرة العفو عن الشيطان، وغزة مثلنا تماما، عتاب المحبين على مساحة قبر وفجر، وكل هذا البهاء البهي، مجرد تجربة عفيفة لإختبار الملك الجديد تحت عرش الله، ومذكرات الذين كتبوا سيرتهم تحت الردم وتحت الرصاص، وأغنية العابرين إلى يومهم الجديد.
غزة
شيء من ترتيل الآلهة التي تخلت تماما عن قرابينها، لتوزعها على الموتى العابرين منها الى حضن الله.