مرتبات دوائر التحرير

" فكان موقع عمان نت الوحيد الذي وافق على نشر مقالاتي واستمر ذلك من خلال نافذة "تكوين" التي كانت تحتضن عدداً من الكتاب التنويريين"
الرابط المختصر

كثيراً ما كان يلفت انتباهي عبارة "منع من النشر" التي كانت تبدأ بها معظم مقالات الكاتب الساخر الكبير أحمد حسن الزعبي، فأقرأ المقالة فلا أجد فيها ذماً ولا تحقيراً ولا ركاكةً أو هجوماً على شخوص بعينهم وما إلى ذلك من الأسباب المهنية التي قد تحول دون النشر. على الرغم من أن الكاتب الكبير كان يستخدم بحرفية الترميز والإسقاط من خلال سرد جميل لقصة واقعية أو حكاية يبرع في نسجها وصولاً إلى نقد سياسي أو اجتماعي أو اقتصادي، قد تختلف معه أو مع جزء منه لكنك حتماً لا تقوى أخلاقياً ولا مهنياً على رفض نشره، اللهمّ إلا إذا كان قرار السماح والمنع من النشر ليس بيدك.

حينما بدأت أكتب في مواضيع نقد التراث الديني والتنوير، كان من الطبيعي أن ترفض الغالبية الساحقة من الصحف والمواقع  نشر مقالاتي  لأسباب أيديولوجية أو شعبوية تتعلق بردة الفعل المحتملة اتجاه ما ينشر ومن نشر، فكان موقع عمان نت الوحيد الذي وافق على نشر مقالاتي واستمر ذلك من خلال نافذة "تكوين" التي كانت تحتضن عدداً من الكتاب التنويريين أو العلمانيين أو "الزنادقة" أو "الممولين" بحسب القارئ ومستقبلاته.

لم أتوقع أن تكون المقالات السياسية أشد وطأةً على بعض الصحف والمواقع من مقالات نقد التراث الديني، حيث أن مرتبات دوائر التحرير في عدد من الصحف كانوا وما يزالوا يرفضون نشر بعض المقالات لي ولغيري في حين يقبلها غيرهم، الأمر الذي يعني بالحد الأدنى أن هذه المقالات لا تحتوي على ما يمكن أن يحمل الصحيفة التي امتنعت عن النشر المسؤولية القانونية مثلاً وفقاً لقوانين تقييد حرية الرأي والتعبير التي تحكم منظومة الإعلام منذ أفول نجم "ثورات الربيع العربي" الذي ما لبث أن سطع في سماء ملبدة بالغيوم ثم هوى.

كنت قد كتبت منذ أشهر مقالةً بعنوان: "عبده لم يعد مشتاق" أتناول فيه بشكل ساخر شغف الساسة ممن أحيلوا على التقاعد أو وضعوا على الرف إلى حين؛ في دولنا العربية إلى العودة إلى المنصب، مستوحياً من شخصية "عبده المشتاق" التي أبدعتها ريشة الراحل الكبير مصطفى حسين وقلم الراحل العظيم أحمد رجب في مؤسسة أخبار اليوم المصرية؛ حالة شخصية "عبده المشتاق" المعاصرة التي باتت لا تنتظر بجوار الهاتف "أبو قرص" الرنة الموعودة التي تبشره بحقيبة وزارية بل بات عبده يتسم بالمبادرة حيث ينشط ويسعى لاجتذاب الانتباه إليه وتذكير أولي الأمر بوجوده علّهم يطفئون نار شوقه.

المقال متاح على عدد كبير من المواقع وليس فيه أي إشارة لأي شخصية بعينها ولا حتى يتحدث عن الأردن بل عن إقليمية الظاهرة، مع ذلك، رفضتها الصحف المحافظة، والمدهش كان ما قاله أحد ضباط صف دائرة التحرير من أن: "قد يظن البعض ونحن الآن في سياق تغيير وزاري أنه مقصود بهذه المقالة"! لم أكد أصدق هذه العبارة التي تؤكد أن الرجل يقر بتفشي الظاهرة ويخشى على شخوصها من أن تجرح مشاعرهم، منذ ذلك الوقت رُسِمَت للرجل صورة في ذهني، فكأني به  يرتدي بزةً عسكريةً داكنة اللون ممسكاً بيده المرتجفة سكيناً نصلها قلماً أحمر اللون، يهوي بها على المقالات التي تقضّ حسه الأمني، فيوالي الكلمات والعبارات طعناً حتى تصطبغ بلون الدم لتلفظ المقالات "الإشكالية" زفراتها الأخيرة بين يديه.

حينما ثارت أحداث الشغب في منطقة ناعور على إثر قرار تجميد عضوية النائب السابق أسامة العجارمة، تواصل معي أحدهم  طالباً إلي أن أدلي بدلوي في مجريات ما يحدث، وعلى الرغم من أنني كنت قد نشرت مقال أو أكثر حول هذه المسألة، إلا أنني وجدت أنه لا بأس من كتابة مقالة تساهم في تحليل المشهد وتأصيله كما أراه طبعا، لأتفاجأ أيضاً أن من طلب المقالة لم ينشرها، الأمر الذي يقطع أن ثمة محرر أصيل يملي من كهفه ما يشاء على دوائر تحرير الشكل والصورة، فما كان مني إلا أن  انتظرت يومين  ثم نشرتها في مواقع وصحف مختلفة، وكان عنوان المقال: "أبناء أشد من الأعداء"، وحظيت بكثير من التغذية الراجعة الإيجابية من أصدقاء وكتاب وسياسيين.

آخر نكتة في رحلة منع النشر –لكنها ليست الأخيرة-  كانت حينما كتبت مقالة بعنوان: "فهد الخيطان والمكارثيون الجدد"، أحاول من خلالها تحليل ظاهرة التنمر والشخصنة التي تعرض لها الرجل حينما نشر مقاله عن قضية الفتنة التي خالف فيها أصلاً قرار النائب العام بمنع النشر وتضمنت أسماء ووقائع تحقيقية تنشر لأول مرة، دون أن يقوى قاتل الكلمة في دائرة التحرير على منع نشرها، حيث ضجت وسائل التواصل الاجتماعي حينها بالهجوم والسب والقدح في الرجل دون حتى تحليل ما كتبه وقراءة ما وراؤه، فكتبت منتقداً هذا الهجوم غير المهني وتجريح شخصه على الرغم من الاختلاف البيّن بين توجهاتي وما يكتبه الرجل، لترفض معظم الصحف نشر مقالتي التي أدافع فيها عنه ومن بينها الصحف التي تؤيده ونشرت مقالته "الإشكالية"، والسبب كان لدى المعظم توجهاتهم ومواقفهم الشخصية من فهد الخيطان أو من قضية الفتنة نفسها،  إلا أن ثمة سبب غايةً في العجب عبّر عنه أحدهم بقوله: "المقالة تتضمن إشارة إلى اسم الكاتب أحمد حسن الزعبي وهذا يخالف الأعراف الصحفية التي تمنع مهاجمة زميل من خلال منبر إعلامي"! لست متأكداً إن كان الرجل قد قرأ ما كتب حيث أن ما تضمنته المقالة تغريدة للكاتب الزعبي موثقة من حسابه على تويتر على نحو ما يجري عليه العمل في الصحف العالمية والمحلية، طرحتها مثالاً على الهجوم القاسي الشخصي بسبب خلاف في الرأي حول قضية عامة.

الطموح أن نصل إلى صحافة حرة تتقبل وتنشر الرأي الذي تختلف معه؛ أمنية لن تتحقق، لكن ما يثير الذعر افتقار عدد لا يستهان به من رؤساء التحرير وضباط صفهم لأسس ومعايير واضحة يتم بموجبها قبول أو رفض مقالة بسبب مضمونها، هذا لم يقيد حرية الكلمة فحسب، وإنما أفضى إلى تفشي ظهور عدد كبير من المُستَكتَبين الذين يمثلون إصدار ثاني من ظاهرة تحول لاعبي كرة القدم والممثلين في مصر إلى مذيعين ومحللين سياسيين.