محمد سلّام، الحزن في الحمّام
في الوقت الذي يلغي فيه مئات الأفراد في الأردن وغيرها أفراحهم واحتفالاتهم الشخصية وقيام عديد من المؤسسات والهيئات بتأجيل نشاطات كان مخطط لها سابقاً تضامناً مع سكان قطاع غزّة المنكوبين، أبت دول أخرى بمؤسساتها وعدد من أفرادها إلا وأن تمضي في مهرجاناتها الترفيهية ولا يلامون في ذلك، فالتعاطف الصادق لا يُفتَعَل ولا يُطَلَب وإنما هو إحساس نابع من الذات وغير قابل لأن يكون سلعة للمجاملة أو التظاهر.
الفنان المصري محمد سلّام الذي كان من المقرر أن يشارك بمسرحية في موسم الرياض الترفيهي مع بيومي فؤاد ومجموعة أخرى من الممثلين خلال هذا الشهر؛ اعتذر عن المشاركة وصرّح بأنه "غير قادر على إضحاك الناس والرقص والغناء بينما أطفال غزة يموتون في كل لحظة".
هذا الموقف الإنساني من سلّام بطبيعة الحال استقبله عدد من طبول الفن والإعلام باستهجان كبير لأنهم استشعروا في قرارة أنفسهم خجلاً ووصمةً لم يكن في بال سلّام الإيحاء بها أو إدانة من سيشارك في موسم الرياض، فكل ما فعله الرجل أن اعتذر عن المشاركة ثم صمت، لكن على رأي المثل: "اللي على راسه بطحة بحسس عليها.. واللي في ظهره شوكة بتنخزه (ومشيها ظهره عشاني).. وكاد المريب أن يقول خذوني.."، فمن لديه نقيصة لا يمكن أن يتسامح مع هكذا موقف يكشف سوأته، تماماً مثل من يستر عورته في وسط عراة فهو يفضح عوراتهم وسوآتهم البادية بعفّته وتستّره.
الهجوم الذي تعرض له سلّام من الإعلام المأجور الموجّه الذي اتهمه "بالمزايدة.. والتظاهر المفتعل.. والتصنّع.." يعكس انحداراً عميق أعمق من العمق الذي ظننا أن لا أعمق منه في منظومة الأخلاق التي وصل إليها صعاليك الإعلام والفن.
لا شك أن بعض المؤسسات ذات الملاءة النفطية يزعجها كثيراً إحساسها بالعجز عن شراء بعض الضمائر والمشاعر والأحاسيس التي ظنوا أن ليس فيها ولا منها ما هو عصيّ على الابتياع، ربما لكثرة ما ابتاعوا منها خصوصاً في سوق الإعلاميين والفنانين والمثقفين والمفكرين، وهم يرون في كل مستغنيٍ عن أموالهم محتفظٍ بكرامته ومبادئه وضميره الحيّ؛ غصّةً تعكّر أجواء ممارسة هواية شراء الذمم والأقلام، فكم من قلم ابتاعته بعض تلك الدول لتحقيق مآرب سياسية مثل «ترقيع التطبيع.. وأنسنة انتهاكات حقوق الإنسان..وتبرير كسر كل قلم حر ولو بقتل صاحبه في وضح النهار».
بعد التصريح المريب الذي أدلى به الرئيس المصري السيسي مع بداية العدوان على قطاع غزة بعد السابع من أكتوبر حينما نصح إسرائيل ب"تهجير سكان القطاع إلى صحراء النقب بدلاً من صحراء سيناء لحين تصفية المقاومة ثم إعادتهم"؛ ظهر بعض «عدم المآخذة» السياسيين على شاشات بعض الفضائيات المصرية يناقشون فكرة "ماذا لو عرضت على مصر صفقة لاستقبال مهجرين من غزة في حزام 15 كيلو متر في صحراء سيناء مقابل إنهاء مشكلة سد النهضة وسداد الديون"، لتأتي الإجابة المكتوبة المطلوبة "هذا عرض يمكن دراسته طالما سيحقق لنا مصلحة"، في هكذا أجواء موبوءة من الطبيعي أن تكون أي خطوة ولو كانت رمزية وبسيطة مثل خطوة سلّام موجعة وكاشفة عن الوضاعة ولانحدار الذي وصل إليه البعض.
الفنان محمد سلّام تضامن بطريقته بما يستطيع مثل ملايين في دولنا المغلوبة شعوبها على أمرها، ليبقى هو ومن مثله من أصحاب المواقف شوكةً في حلق كل من استعذب أن يُسَد حَلْقُه برزمة ريالات أو دراهم. لا يعيب أي شخص أو مؤسسة تنفيذ ما تشاء من نشاطات فنية أو غير فنية بل إن هذا لا يدينها ولا يعني أنها غير عابءة بما يجري في غزّة، فلكل اختياره وقرارته وتقديره للأمور، وإنما المعيب هو إنكار الحزن والشعور بالتعاطف والتضامن الوجداني على من اختار طريقته الخاصة للتعبير عنه.
ختاماً وعلى الماشي، ترى أصدقاؤنا من المدافعين عن الحقوق والحريات في الأردن وغيره ، هل سيكتبون ويجاهرون بآرائهم الناقدة لمواقف بعض دول الخليج الرخوة بل المتماهية في بعضها مع ما تقوم به إسرائيل؟ بطبيعة الحال هم يجرؤون ويتجرؤون على نقد أمريكا وأروبا لوجود نطاق حماية تكفله ثقافة وقوانين تلك الدول الضامنة لحرية التعبير، أما دول «تعلالي إلّالي يا حبيبي تعالالي» فتلك نقرة أخرى، والله لا يجعلنا من قطّاعين الأرزاق.
على محمد سلّام وأمثاله ممن يشعرون بالتعاطف وعدم القدرة على الاستمرار بحياتهم بشكل طبيعي والتعايش مع أخبار الدمار وسفك الدماء وتبعثر الأشلاء، أن يحزنوا كما يشاؤون لكن في الحمام والناس نيام.