قبل أحد عشر عاما، أحرق التونسي محمد البوعزيزي نفسه، وأشعل فتيل ثورات "الربيع العربي"، وحذا حذوه نحو خمسين شخصا من دول عربية عدة، أحدهم ستيني في السعودية، برّروا أفعالهم بانعدام العدالة الاجتماعية. وغيرت تلك الثورات وجوها وأسقطت عروشا، بل وقسمت بلدانا عربية، بعضها تجاوزت مرحلة الاضطرابات، وتحاول جاهدة الاستقرار عبر كل تلك السنوات، وبلدان أخرى ما زالت تحترق بتناحر قبلي مليشياتي عابر للقارات، وأخرى تتلقى حتى الساعة ضربات جار أصبح بمنزلة عدو.
تونس نفسها، على الرغم مما تحقق من إنجازات، ما زال الجدل دائرا فيها، هل حققت الثورة أهدافها أم أخفقت. ويحاول أصحاب الرأيين على كل المنابر الفوز بهذا النقاش العدمي الذي يصبح، يوما بعد يوم، أقرب إلى نقاش البيضة والدجاجة، وأهل تونس البسطاء ما زالوا، كغيرهم من العرب، يترقبون "التغيير" الذي سيمنحهم الاستقرار على امتداد الخريطة التي طرأ ما طرأ عليها من تغيير حدود وأعلام وأنظمة.
كان الربيع الأردني مختلفا، شارك فيه شابات وشباب من طبقات مختلفة، حتى المترفة منها، إلا أنه عندما شارك فيه ممثلون عن المحافظات وبعض المناطق المهمّشة، وبرزت مطالبات مختلفة، وواقعية بالأحرى، تم تجاوزه بقوى ناعمة، امتصت غضب الشارع، وخرجت بحكومةٍ تفاءل فيها الجميع. ولم يطل الانتظار لتخيب الآمال بتلك الحكومة، أو بغيرها، وصولا إلى الحكومة الحالية التي وعد رئيسها، بشر الخصاونة، الأردنيين بأيام "جميلة لم تأت بعد"، غير أن أردنيين شبابا لم يروا في حديث الخصاونة أو في تصريحات ممن سبقوه في دوائر صنع القرار ما يقنعهم. وعلى مدار السنوات الأخيرة، فشل أكثر من شاب بتنفيذ تهديداته بحرق نفسه أمام دوائر رسمية، إلا أن بعضهم للأسف فقد الأمل نهائيا ونفذ ما هدّد به. ومنهم، قبل أيام، شاب في مدينة الزرقاء، المدينة المليونية المبتلاة بالفقر والبطالة والتهميش، أقدم على إحراق نفسه أمام إحدى المؤسسات هناك، احتجاجا على الظلم الذي تعرّض له كما قال، قبل أن يضرم النار بنفسه على مرأى من المارّة، حاول بعضهم إنقاذه، لكنهم لم يفلحوا.
وتذكّر محاولات الإنقاذ تلك، على الرغم من صدقها، بتصريحاتٍ عن جهود يبدو أنها غير مرئية بعد، ولم يلمسها معظم الأردنيين لإنقاذ المشهد العام، بشعور عام بالضياع والحكومات، لا تستقر على قرار، بل لم يعد الأردنيون واثقين إن كانت هناك فعلا آلية لاتخاذ أي قرار كان، بل هل هناك فعلا قرار يتّخذه أحدهم؟ المؤشرات الفعلية، بحسب حديث عام، لا تدل على ذلك، ما يطفو على السطح هو التردد، البحث عن مبرّرات، قرارات غير مدروسة، التناقض في التصريحات عن تلك القرارات وغرائبياتها، وكأن صاحبها يعيش بعالم مواز لا يشبه الأردن الذي يعاني أبناؤه من تهديد حقوقهم الدستورية، وكثير منهم يعاني من تردّي كل الخدمات، خصوصا التعليمية والصحية، وليس همهم أن يحشر كلمة الأردنيات بجانب الأردنيين، وكلاهما، رجالا ونساء، يعاني الأمرّين، ولا يرى بوادر لإصلاح أو تنمية مبشّرة كما يشاع!
ما الغريب أن يحرق أحدهم نفسه؟ فهو ميتٌ بلا عمل، ولا مصدر رزق
يستغرب الأردنيون من شكل ومدى التفاعل مع مشاهد الاحتجاج والرفض على ما يمرّون بها من تحدّيات، أقلها الاقتصادية بالمناسبة، إذ يواجه الأردن اليوم أزمة ثقة وهوية، وسلما ونسيجا اجتماعيين مهدّدين، ولا يقوون على مواجهة ذلك كله إلا عبر وسم (هاشتاغ) يتصدّر "التايم لاين" بلا ضجيج، ولا حتى تأثير، حتى لو كان لشابٍّ قرّر إنهاء حياته حرقا. يرى أردنيون كثيرون أن تلك المشاهد والأخبار أصبحت عادية، فما الغريب أن يحرق أحدهم نفسه؟ فهو ميتٌ بلا عمل، ولا مصدر رزق، ولا يستطيع إعالة أسرته ولا تعليمهم. وإذا كان عازبا، لا يستطيع أصلا تكوين أسرة، إذ توضح أرقام إحصائية رسمية في السنوات الأخيرة ارتفاع حالات الطلاق، وتراجع نسب الزواج وارتفاع نسب تأخر سن الزواج لدى الجنسين.
لا سبيل لحالة الضياع التي يمر بها المجتمع، والانتظار الإجباري الذي يسيطر على المشهد العام إلا المكاشفة والمصارحة، ليس عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وإنما بحوار جادّ هادئ مع صاحب القرار القادر على اتخاذه، ويملك تفعيل آليات تطبيقه، فمخاض الإصلاح طال، ولا نملك ترف الوقت لانتظاره.
قد يقول قائل إن محاولات الشباب حرق أنفسهم عبثية، وتدخل في باب التحريم والإدانة، حتى أن تصريحات لعلماء دين أقرّت بتحريم الانتحار وحرق النفس، ولكنها في الوقت نفسه تقول ما معناه إن من أقدم على هذا الفعل مُرغم، وليس مدركا ما قام به، وإن ما يعانيه من ضغوط فاقت كل تدبير أو تفكير، ولا نملك إلا أن نطلب لأرواحهم الرحمة، وهذا منطقي بشكل أو بآخر، فمن منا يملك مفاتيح الجنة، وله الحق بتوزيعها ومنحها لشخص دون آخر.
العربي الجديد