لمن ضاقت صدورهم بالدفاع عن الضحية

الرابط المختصر

لم يكن مفاجئاً تحويل القوم ممن هاجموا وفاء الخضراء وليس ما كتبته سهام هجومهم نحوي ونحو غيري ممن دافعوا عنها وليس عمّا كتبته. وهذه النقطة الفارقة التي تشير إلى ثقافة الاجتزاء والانتقاء لتخدم فهم البعض ومواقفهم المسبقة.

 لم أتعرض -وفي ما أظنّ لم يفعل غيري- لمضمون منشور الخضراء لأنه ليس مجال النقاش ولا الهدف مما كُتِب، فانتقاد وتفنيد منشورها -الذي لم يقم به معظم مهاجميها- حق بل هو السيناريو النموذجي الذي نرومه في مجال حرية الرأي والتعبير، حيث تجابه الكلمة بالكلمة والحجّة بالحجّة، لكن المرفوض هو الحملات الظلامية التي كما قلت لا يمكن توصيفها إلا بأنها غوغائية لأنها تستهدف الشخص وليس ما كتب وتطالب باغتيال شخصيته وليس مناقشته بما خطّ قلمه.

 بماذا يمكن وصف مثل هذه الحملات التي أدت سابقاً إلى إعدام محمود محمد طه وفرج فودة الذي قال قاتله حينما سأله النائب العام "ماذا قرأت من كتبه؟"، أجاب: "أنا أمّي لا أعرف القراءة ولا الكتابة"! وكذلك قاتل ناهض حتر الذي قيل أنه لم يطّلع على المنشور الذي قام الراحل بمشاركته على صفحته لكنه من خلال تتبعه لحملة تكفيره على وسائل التواصل الاجتماعي قام بقتله في ساحة قصر العدل في وضح النهار.

 اليوم تتكرر الجريمة ذاتها بحملة غوغائية، نعم غوغائية، ضد وفاء وليس ضد ما كتبته، وكان بودّي أن لا تدخل المؤسسات الدينية على الخط، ومع ذلك فإن البيان الصادر عن دائرة الإفتاء كان متعقّلا ولم ينزلق إلى جُرف الزندقة والتشويه، إذ لم يشر البيان إلى تكفير ولم يعتبرها خطراً على الدين أو المجتمع ولم يطالب بإقالتها من المؤسسات والهيءات التي تشغل عضويتها.

 أي أوصاف يمكن للزملاء والزميلات -الذين تسببت توصيفاتي بجرح مشاعرهم المرهفة- يمكنهم أن يطلقوها على هذه الحملات التي مؤداها قتل الشخص معنوياً مع احتمال أن ينبري أحد المُضلَّلين إلى قتلها فعلا كما حدث مع غيرها؟

 أتباع أي معتقد أو فكر الذين ترتعد فرائسهم من الكلمة فلا يقوون على تحمّلها ومناقشتها، فيتحولون إلى حالة دفاعية شرسة تتناول صاحب الكلمة وليس كلمته بالتجريح والتشويه؛ يعكسون صورةً سلبيةً عن حقيقة قناعتهم التي قد تبدو هشّةً أمام الرأي والفكر المخالف، فالمعتقد والفكر القوي لا يهاب الكلمة حتى لو كانت مسيءة وإنما يتصدّى لها بالكلمة والحجج والمنطق.

 رواية "آيات شيطانية" للكاتب البريطاني من أصل هندي سلمان رشدي، تعتبر من الناحية الأدبية رديءةً جداً وفقاً لآراء نقّاد محايدين لهم وزنهم، ومع ذلك فقد اشتهرت هذه الرواية في جميع أرجاء العالم وكانت الأكثر مبيعاً لأن المرشد في إيران أصدر فتوى بإهدار دم الكاتب ورصد مكافءة لمن يقتله، إذن حتى من مُسَّت مشاعرهم مما كتبته الخضراء كان الحريّ بهم عدم تسليط الضوء عليه والترويج له من خلال التهديد والوعيد والبلطجة الافتراضية، وكان يمكنهم الاكتفاء بالردّ عليه بالحجّة والدليل.

 يقول أحد الزملاء الكرام أنني أحرض الدولة على منتقدي وفاء الخضراء، والصحيح أنني أحرض الدولة ومؤسساتها المعنية على كل استئصالي ظلامي يستخدم سلاح الزندقة والتكفير ليتقرب إلى الله أو ليستعرض عضلاته أو ليحقق مأرباً سياسياً غير خافٍ على من يتتبع ويقرأ المشهد بكليّته، تماماً وبالقدر نفسه الذي أحرض فيه الدولة على كل من يمسّ بحق الناس في حرية التعبير والدفاع عن معتقداتهم بكل أداة مشروعة ويمنعهم من ممارسة شعائرهم الدينية التي كفلتها لهم مواثيق حقوق الإنسان والدستور.

 طريف كيف يبدأ بعضنا ردوده بعبارة: "لست في معرض الدخول في سجال"، ثم تراني به يتجاوز السجال إلى الجدال، ولا بأس في ذلك، ثم من الأطرف أن ينعى عليك البعض "تنزيل الأحكام المسبقة" ثم يجيّر الكلمات وفقاً لموقف مسبق غير محايد تبناه، وبهذه المناسبة، في حقوق الإنسان وحماية حرية التعبير، لا يوجد موقف محايد، فإما أن تكون معها بتعزيزها وتوسيع آفاقها ومحاربة كل من يعمد إلى اختطاف فضائها، أو أن تكون ضدها من خلال إثارة الرعب في نفوس المفكرين والكتّاب وتقديم أكباش فداء لترويع وتأديب من تسوّل له نفسه أن يبدي رأياً أو يخالف موجة.

 اكتمل المشهد صباح اليوم بصدور بيان موقع من عدد من الأشخاص يطالب بإحالة الخضراء إلى النائب العام تمهيداً لمحاكمتها، فإلى لقاء مع ضحيّة جديدة على مذبح محاكم تفتيش الاستئصاليين وأتباعهم من الدراويش.