سأترك للمؤرخين والخبراء العسكريين مهمة القيام بمراجعة دقيقة، متأنية وقائمة على المعلومات، لتحليل هذا الانهيار الهائل في أفغانستان والسرعة المذهلة التي وقعت فيها عواصم الولايات الأفغانية، بما فيها كابول في نهاية الأمر، بأيدي حركة طالبان. كما سأترك لهؤلاء مراجعة وتحليل ما إذا كان قرار إدارة بايدن من أفغانستان بحلول يوم 11 أيلول/سبتمبر المقبل (الذكرى الـ 20 لأحداث 11 سبتمبر، 2001) كان القرار الصحيح والمناسب أم لا، على ضوء المعلومات التي تتوفر للمسؤولين الأميركيين العسكريين والدبلوماسيين والاستخباريين.
ومع أنني أعتقد بقوة أن قرار إدارة بايدن الاستراتيجي الانسحاب النهائي من أفغانستان بعد 20 عاما من احتلالها هو القرار الصحيح والمناسب، فإن لدي، كما لدى العديد من المراقبين والمحللين الأميركيين والعالميين، أسئلة مهمة حول التالي:
لماذا انهارت القوات الأفغانية المسلحة والمدربة جيدا الموالية للحكومة بهذه الطريقة الماحقة وفي كل الولايات الأفغانية أمام قوات حركة طالبان القلية التسليح والتدريب؟
لماذا انهارت هذه القوات بهذه السرعة الخاطفة (لا أكثر من سبعة أيام، بدل سنوات أو أشهر)؟
لماذا لم تبدأ إدارة بايدن عملية إجلاء موظفيها المدنيين (5 آلاف إلى 10 آلاف) وعشرات الآلاف من الأفغان الذين ساعدوا القوات الأميركية وعائلاتهم من أفغانستان مبكرا (حوالى 100,000)، أي منذ القرار الذي اتخذته الإدارة بالانسحاب الكامل من أفغانستان في أيار/مايو الماضي؟
عدا هذه الأسئلة الرئيسية، ليس لدى أي اعتراض أبدا على قرار الانسحاب من أفغانستان. وحقيقة الأمر أنه على الرغم من أن الولايات المتحدة نجحت إلى حد كبير في القضاء على تنظيم القاعدة (التي نفذت هجمات 11 سبتمبر التي أدت إلى قتل ما يقرب من 3,000 أميركي) في البلاد وتقليل خطر القيام بهجمات إرهابية أخرى على الولايات المتحدة، فقد فشلت فشلا واضحا في نهجها الخاص بمكافحة التمرد في البلاد وترتيب أوضاع السياسة الداخلية الأفغانية و"بناء الدولة" الأفغانية. كما أن الولايات المتحدة قللت من قدرة طالبان على الصمود. إضافة إلى ذلك، أخطأت الولايات المتحدة في قراءة الحقائق الجيوسياسية للمنطقة – كل هذه الأسباب، ومن خلال قراءة سريعة لما حدث وخلفياته، أدت إلى الانهيار الشامل والسريع لحكومة أفغانستان وقواتها العسكرية أمام زحف قوات طالبان.
لقد حان الوقت لمواجهة الحقائق: قرار تأجيل انسحاب القوات الأميركية لمدة عام أو عامين آخرين – أو حتى 20 عاما آخر -- لن يحدث أي فرق في نهاية المطاف في العواقب المحزنة التي لا تطاق على الأرض في أفغانستان. لو لم تتخذ إدارة بايدن قرار الانسحاب من أفغانستان بالكامل لكان على الولايات المتحدة أن تلتزم بأفغانستان إلى أجل غير مسمى، بتكلفة تصل إلى عشرات المليارات سنويًا، مع أمل ضئيل في البناء على مكاسب هشة داخل دولة ذات حكم ضعيف وفاسد.
لست على علم أبدا بأي تقرير لا من الوكالات الأميركية ولا أي من وكالات دول الناتو الاستخبارية الموجودة في أفغانستان منذ 20 عاما كان يشير إلى احتمال أن تنهار قوات الحكومة الأفغانية بهذه الضخامة وهذه السرعة. بل معلوماتي أنه في أواخر آذار/مارس 2021، ورد أن تقارير المخابرات الأميركية لمسؤولي إدارة بايدن كانت تحذر من أن طالبان يمكن أن تسيطر على معظم أفغانستان في غضون عامين إلى ثلاثة أعوام – ولكن ليس في غضون أسابيع، بل أيام قليلة. حتى قوات طالبان نفسها فوجئت بالسرعة التي تمكنت بها السيطرة على كامل التراب الأفغاني، بما في ذلك كابول ومقرات الحكومة الأفغانية.
لقد أنفقت الولايات المتحدة أكثر من 2 تريليون دولار على الحرب في أفغانستان خلال العشرين عامًا منذ 11 أيلول/سبتمبر 2001. وهو ما يعني أن الخزينة الأميركية كانت تنفق ما يصل إلى 300 مليون دولار يوميا، كل يوم، ولمدة عقدين على الوجود الأميركي في أفغانستان، أو 50 ألف دولار لكل فرد من سكان أفغانستان البالغ عددهم 40 مليون نسمة. بعبارات أبسط، أنفق العم سام على إبقاء طالبان في مأزق في أفغانستان، فقط في مأزق، أكثر من صافي ثروات جيف بيزوس وإيلون موسك وبيل غيتس وأغنى 30 مليارديرًا أميركيا آخر، مجتمعين.
تشمل هذه الأرقام الرئيسية 800 مليار دولار من تكاليف القتال الحربي المباشرة و 85 مليار دولار لتدريب الجيش الأفغاني المهزوم، الذي انهار في الأسابيع القليلة التي تلت إغلاق البنتاغون المفاجئ في أوائل تموز/يوليو لقاعدة باغرام الجوية التي ألغت الوعد بتقديم دعم جوي ضد حركة طالبان المتقدمة. كان دافعو الضرائب الأميركيون يمنحون الجنود الأفغان 750 مليون دولار سنويًا كرواتب فقط. وأخيرًا، يقدر مشروع تكاليف الحرب بجامعة براون الأميركية إجمالي الإنفاق الأميركي في أفغانستان على مدى الـ 20 سنة الماضية بنحو 2.26 تريليون دولار.
كما كانت الكلفة أكبر من حيث الخسائر في الأرواح. فقد كان هناك 2500 قتيل عسكري أميركي في أفغانستان، وقتل ما يقرب من 4000 متعاقد مدني أميركي. وهذه أرقام متواضعة مقارنة بأعداد القتلى الأفغان: ما يقدر بنحو 69 ألف عسكري أفغاني، و47 ألف مدني، بالإضافة إلى 51 ألف قتيل من مقاتلي طالبان وأنصارهم. وبلغت تكلفة رعاية 20 ألف ضحية أميركية في أفغانستان حتى الآن 300 مليار دولار، ومن المتوقع أن يرتفع الرقم إلى نصف تريليون أو نحو ذلك.
علينا أن نتذكر أن الولايات المتحدة ستستمر في تحمل تكاليف حرب أفغانستان لفترة طويلة بعد اكتمال انسحاب القوات الأميركية في عهد الرئيس بايدن من أفغانستان. بطبيعة الحال، مولت الولايات المتحدة الحرب الأفغانية بأموال مقترضة. ويقدر باحثو جامعة براون أنه تم بالفعل دفع أكثر من 500 مليار دولار من الفوائد (المدرجة في المبلغ الإجمالي البالغ 2.26 تريليون دولار لتكاليف هذه الحرب)، ويقدرون أنه بحلول العام 2050 يمكن أن تصل تكلفة الفائدة على هذه القروض وحدها على ديون الحرب الأفغانية إلى 6.5 تريليون دولار. وهذا يصل إلى 20,000 دولار لكل مواطن أميركي.
وهناك قضية أخرى يجب التنبه إليها: الأسلحة الأميركية التي خلفتها القوات الأميركية في أفغانستان، وهي أسلحة أصبحت كلها في أيدي طالبان. وحسب مسؤول أميركي فإنه على الرغم من عدم وجود أرقام محددة حتى الآن، فإن التقييم الاستخباراتي الحالي يفيد أن طالبان تسيطر على أكثر من 2000 عربة مدرعة، بما في ذلك عربات همفي الأميركية المتقدمة، وما يصل إلى 40 طائرة من المحتمل أن تشمل طائرات UH-60 بلاك هوك، وطائرات هليكوبتر هجومية استكشافية، وطائرات بدون طيار عسكرية من طراز سكان إيغل. المسؤولون الأميركيون يعربون عن قلق على مستويين للإبقاء على هذه الأسلحة في أيدي القوات الأفغانية في أفغانستان: الأول هو أن طالبان نفسها ستستخدم معظم الأسلحة ضد أفراد الشعب الأفغاني الذين قد يقومون بمناهضتها، والثاني أن طالبان قد تقوم بمشاركة هذه المعدات فائقة التقدم مع دول منافسة مثل الصين وروسيا. جدير بالذكر أن البنتاغون لا زال يدرس إمكانية القيام بتدمير بعض هذه الموارد العسكرية على الأرض لمنع استخدامها ضد الشعب الأفغاني أو وقوعها في أيد منافسي الولايات المتحدة، ولكن اتخاذ قرار متهور بهذا الشأن قد تكن لها تبعات كبيرة أهمها إغضاب طالبان التي تبدي تعاونا كبيرا في مساعدة الولايات المتحدة وحلفائها على إجلاء رعاياها من أفغانستان بسلاسة وسلام.
هذه ليست المرة الأولى التي تنسحب فيها القوات الأميركية من دولة خارج أراضيها – من كمبوديا إلى فيتنام إلى العراق في الآونة الأخيرة. قد يستغل المناكفون السياسيون هذا الانسحاب وحالة الفوضى والارتباك والصور المؤلمة لعشرات آلاف الأفغان الذين اقتحموا مطار كابول بصورة هستيرية يائسة للهرب من أفغانستان لمهاجمة سياسة الرئيس بايدن الخارجية. ولكنني أعتقد واستطلاعات الرأي تؤيد ذلك أن الأميركيين لا زالوا يؤيدون قرار الرئيس بايدن الانسحاب من تلك الدولة.
ما حدث حدث، كما قلت وسأترك للمؤرخين والخبراء العسكريين مراجعة ما حدث واستخلاص العبر. لكن المهم الآن هو المستقبل. أعتقد أن على الولايات المتحدة أن تبقي على قنوات اتصالها مع طالبان مفتوحة مرحليا، وهي تقوم بذلك فعلا. وفور أن تعلن طالبان عن حكومة لقيادة أفغانستان، أعتقد أن الولايات المتحدة ستقرر ما إذا كانت ستعترف بهذه الحكومة أم لا. المعياران اللذان ستضعهما الولايات المتحدة لتقرير ما إذا كانت ستعترف بحكومة طالبان هما: ما إذا كانت طالبان ستحول أفغانستان مرة أخرى إلى مرتع خصب للجماعات الإرهابية كما فعلت في فترة حكمها الأولى من 1996 إلى 2001، أم ستقرر أنها من أجل أن تضع أفغانستان على طريق النمو والتقدم عليها أن تحول دون ذلك. والثاني هو كيفية تعامل الحكومة الأفغانية الجديدة مع أبناء شعبها، خصوصا النساء والبنات، واحترام الحريات العامة للشعب الأفغاني مثل حرية الرأي والتعبير والمعتقد. يقينا أن المعيار الأول هو الأهم بالنسبة إلى الولايات المتحدة، فهناك دول كثيرة في العالم لا تحترم حقوق شعوبها العامة، كما الحال في غالبية الدول العربية، ومع ذلك تقيم الولايات المتحدة علاقات حميمة معها. لنتظر ونرى.
مفيد الديك إعلامي ودبلوماسي أميركي سابق.