لأن حزيران أقسى الشهور.. بقلم: محمود درويش

لعل حزيران أقسى الشهور، لا لأنه يعيد إلى الذاكرة المثقوبة ما لا تريده من الصور والعبر، بل لأنه يعيد إنتاج نفسه فينا بطريقة المألوف المتكرر. لقد ألفنا أن لا نتذكر، ألفنا تحويل ما يُدهش إلى ما يبعث على السأم. لا شيء يدهش. لا شيء يدهش.

 

في حزيران عرفنا أقصر الحروب وأطول الهزائم.. في حزيران عرفنا أطول الحروب التي لم تُسفر عن نصر للعدوان، وعن هزيمة لنا.

 

لا يسلم أحد من وجع الذكرى.

ولا من انهيار ما في النفس. حزيران أقسى الشهور. حزيران هاوية نحاول الصعود من قاعها السحيق إلى حيّزها، في محاولة لتحسين شروط الهاوية. وبين اليد المتوترة المرفوعة لوقف حائط ينهار، وبين الصرخة المتوترة: دع ما ينهار ينهار، تكمل ذبحتنا القلبية عامها العشرون.

 

عشرون عاماً يغافلنا، لنفاجأ يما يصنع بنا الزمن، وبما لا يصنع بنا الزمن. عشرون عاماً من وجع نحاول أن ننساه فيلاحقنا: من وُلد هناك، في حزيران، قد بلغ العشرين. أولاد الحجارة، أولاد الصواريخ الصغيرة، أولاد السجون، وأولاد الخروج عن المألوف.

 

ونشهد،

نشهد إلى أي حد اتسعنا، وإلى أي حد ضاق الوطن، عشرون موسماً من القمح المحروق، ونشهد، نشهد في وداع العمر غروب أفكار شابة، كان عليها أن تبقى شابّة، لولا اختلاط الليل بالنهار، ولولا دخول بعض البديل في ما نظنه نقيضاً، حين استطاع ما انهزم فينا أن يهزمنا – إلى حين – في ترتيب أولويات المعركة التي لم توفر لشروط المعركة غير ما يمنع الحركة.

 

ونشهد،

نشهد أيضاً أن عكس ذلك، ضد ما يجعل اليأس مطلعة. ولكن حزيران أقسى الشهور، لأننا شهداء الحدث. وليس في وسع هذا الالتفاف إلى ما فات من هذا الفصل، من هذا العمر المحروم، من نعت لائق، ليس في وسعه أن ينجو من حمى لا نحدد مصدرها:

هل هو الماضي، وقد أخذ معه ذكرى الهزيمة ومضى؟ أم هو الحاضر العاجز عن الانفصال عن مشهد الهزيمة وتاريخها، ليظل الماضي قادراً على إنتاج ذاته، ما دامتالهزيمة تشير إلى واقعها في واقع الاحتلال؟

 

حزيران أقسى الشهور، لأن الاحتلال ما زال قادراً على المقايضة لا بما امتلك فحسب، بل بما هو قادر على الامتلاك ليحرم المقايض من عناصر المقايضة، وليحوّل بلوغنا ما كان هزيمة قبل عشرين عاماً إلى ما يشبه النصر في وعينا بعد قليل، إذ ليس الزمن أخانا الذي ولدته أمنا. وليس الزمن عدوهم إلى هذا الحد.

 

وهكذا نتبارى مع العدو لا في وعي الحق التاريخي، في سياق الصراع عليه، بل في ما توصل إليه هذا الحق من إضفاء صفة الندم على فرص ضاعتن وعلى فرص تضيع. ونصبح أخلاقيين ومراقبين إلى درجة العتاب: من هو الأكثر خبرة في إضاعة الفرص؟

 

إنها مساومة عاجزة، مساومة غير متكافئة، تعيد إلى الذاكرة ما أرادت أن تنساه من مغامرة شايلوك. في أي رصد نلعب؟ أبإعلان عن السلام أعيد إليك الوطن؟ ولأن حزيران أقسى الشهور، فإننا نهبط وادياً غير ذي زرع بيّن، لنسأل: هل ما نحن فيه من ذكرى هو حقاً ذكرى؟

 

ولم لا.. لم لا نتذكر اللغة مرّة أخرى؟

لغة الصراع وما يشتق منها من مفردات صارت مؤهلة لأن تصير شماتة، كي لا نقول سخرية، من الحاكم المتربع على عرش هزيمته الشخصية، الحاكم المرفوع على حراب الاستسلام، الحاكم القادر على اتهام روح المقاومة بالمساومة، ومن المثقف المحروم من نعمة تسلسل الأفكار من فرط تكنيفها مع ما يحوّل فكرة التحرير إلى ما يشبه النهي عن أكل لحم الخنزير، ومن الشارع الغارق في ما لا تًغنيه أيديولوجيا التخريف عن حقه في الرغيف.

 

وحزيران أقسى الشهور، بما أيقظ من ثقافة تسعى إلى تحوّل ثقافة العرب إلى خرقة محكوم عليها بالزوال. ها هو الظلامي يزدهر بسلفيته، ووجهها الحداثي المقنع، وبسخرية مما هو مشترك بين العرب، وبتحويل النقيض التاريخي للمشروع الصهيوني إلى عدو مشترك للمشروع الصهيوني والمشروع الطائفي للموحدين، بشكل غير مباشر، على محاولة طرد الفلسطيني من فرص كانت تسعى إلى تطبيق شعار "ما أُخذ بالقوة لا يُسترد إلا بالقوة".

 

ولأن حزيران أقسى الشهور، فقد عادت إليه الروح بعد أن كادت تهزمه روح "تشرين". كان "العجز الرافض" أو "الرفض العاجز" في حاجة إلى اجتياز الممر المائي ليتحول إلى "قوة استسلام" قادرة على اجتياز الممر النفسي، والمناعة الشعبية، في اتجاه هزيمة لم تكن في حاجة إلى مثل هذه التضحيات!! فتوقف التصفيق المدوي لسقوط الوطن وبقاء الأنظمة. وتوقف التصفيق العاصف لسقوط الوطن الوهم وولادة الأمل، لأن من كان قادراً على النصر في "تشرين" قد تطوّع لحماية القابل للهزيمة من خسارة حزيران.

 

عشرون عاماً من الاحتلال. وعشرون عاماً من صمود الشعب المحاصر بين الاحتلال والحصار. عشرون عاماً من انبثاق الجمر من الرماد. عشرون عاماً من تبلور الهوية الوطنية الفلسطينية. عشرون عاماً من صياغة المعجزة. عشرون عاماً من مقاومة أنجبت روح بيروت التي جرحت روح حزيرن.

 

لقد عاد الغائب بكامل عدة الحضور. وطن غير قابل للابتلاع. وشعب موّحد يستعصي على الإبادة. وفكرة شابة تعيد إنتاج هويتها الوطنية، وهويتها القومية. فها هو الفلسطيني يعيد بناء جسده، ويعيد بناء بيته، ويعيد بناء مخيمه، ويقاتل. يرفع فص الزيتون ويرفع البندقية. وها هم العرب قادرون على القتال دفاعاً عن أرضهم الشرقية. وها هو العدو حائر بين النظر إلى الوراء بفرح، وبين النظر إلى الأمام بخوف، لأن تاريخ العدوان على أرض فلسطين يرافقه تاريخ من تطور المقاومة.

 

وإذا كان حزيران أقسى الشهور، فإنه ليس آخر الشهور.

 ____________

 

* من مقالين للشاعر محمود درويش في "اليوم السابع"، أحدهما بعنوان "حزيران أقسى الشهور" في العدد 110 (16 حزيران 1986)، والثاني بعنوان "عشرون حزيران" في العدد 161 (8 حزيران 1987)، ونقلت "منصة الاستقلال الثقافية" ما في النص أعلاه من المقالين بتصرف، ومن خلال كتاب "مقالات اليوم السابع"، الصادر حديثاً عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية، وأعدّه وحرّره حسن خضر.

أضف تعليقك