كرة الفقراء
من الأحياء المهمشة في العالم جاء أساطير كرة القدم لا من قصور الحكم والسلطة والأغنياء، من الشوارع والشواطئ وبيوت الصفيح خلقوا مجتمعا لمنع التصادم مع الأغنياء بعد أن تحللوا من الاستعمار.
الأغنياء لا يحترفون كرة القدم، ربما لأنهم ضد الطبيعة، من يذكر لاعب واحد جاء من برجوازية القصور وتوج بلقب عالمي ليفرح الفقراء !
مقابل هذا، من يقدر على سرد حكاية دييغو مارادونا ويده الذهبية، من يملك الجرأة لرواية رحلة بيليه وهو يركض خلف كرة من القماش وفي عمر 17 عام صنع فرحاً لشعب بأكمله بعد الفوز بكأس العالم 1958، من يقدر على ابتعاث سقراط فيلسوف البرازيل لاعلان ثورة على دولة الملاعب فيها أكثر من المستشفيات.
ومن يملك شعور الأرجنتيني لويس مونتي بعدما هدده الدكتاتور الإيطالي موسوليني بالقتل في حالتي الفوز والخسارة، وكيف تنسى البرازيل هدف البرتو توريس في مرمى إيطاليا عام 1970 بعدما خلق حالة من التناغم بين اللاعبين، فحصد الذهب، لقد كانوا جميعاً فقراء.
مارادونا الذي حلق من بين فقراء بوينس آيرس ليشرق في ازقة نابولي الإيطالية، لم يجيء لإمتاع الجماهير بل لإعادة إحياء المدينة الفقيرة من جديد فجعلت منه قديساً، بيليه القادم جنوب ولاية ميناس لا من قصور ساو باولو، جاء لاسماع صراخه لاستعادة أجيال كُسرت من الفقر فصار اسطورة، ومثله جاء جورج ويا الهارب من مجازر ليبيريا ليدخل أبواب أوروبا لبناء هوية وشعب و وطن، فصار رئيساً للبلاد.
كل هذا، تشعر به وإن كنت لا تتابع مباريات كرة القدم، إلا أن اللعبة تأخذك لمواجهة الأغنياء رغماً عنك، ففي الملاعب محاكاة لحياة الشعوب بتفاصيلها، لعبة تحفز على إعادة التفكير بالتحرر من جديد، شعوب ترى الانتصار في المباريات بمثابة بقاء وهوية وحياة، ووسيلة لخلق سياق وطني واجتماعي وثقافي واقتصادي وسياسي يعيد وجهها الحقيقي.
البدايات
فيما مضى، كان الدين المحرك للشعوب، وفي القرن العشرين صارت كرة القدم الأفيون الذي يشعل الجماهير، هذا ما استغلته السلطات " الفوز بمباراة كرة قدم أهم عند العامة من احتلال مدينة في الشرق، الوصفة جاءت على لسان وزير إعلام هتلر جوزيف جوبلز " فالجماهير جيش احتياطي يمكن توجيهها لأهداف محددة، ومنصات لصعود الساسة إلى أروقة الحكم، وأسواق مفتوحة للربح.
صارت اللعبة متنفس للفقراء في الجنوب ودجاجة ذهبية للأغنياء في الشمال، لكن ما الفرق بين من يقيم في إنجلترا ومن يعيش في الهند، ما دام الظلم نكهته واحدة، وإن اختلفت المسافات.
من هناك بدأت كرة القدم المعاصرة، من أحياء ليفربول ومانشستر المتخمة بفقر عايشه عمال المصانع كصرخة ألم تعارض السلطة وتتقدم عليها.
كرة يلعبها الفقراء لإنتاج فرح بأقدام حافية وصدور عارية لا يكسوها إلا رداء التعب، انتقلت إلى شواطىء أميركا الجنوبية وأزقة الحواري المنسية، فشغلت العالم باحتراف، طورت وخَلقت نظريات ومدارس كروية متقدمة، رقصت الجماهير فرحًا وابكتهم في آن واحد، سبقوا الأساتذة وأغنياء القارة العجوز، وحصدوا ذهب البطولات الكبرى.
لكن عقلية الرأسمالي لم تترك ذلك يمر دون صخب، جعل من القارة موطئ قدم للبطولات وجاء بالاحتراف، لإعادة اللعبة إلى مهدها لإبقاء سادية تفوق العرق الأبيض وفرض السيطرة على العالم بواسطة شركات عابرة للقارات ترتبط بكارتال من المصالح المشتركة.
فالشمال، لا يرى قيمة لأي أفكار ذات قدرة على إنتاج جديد تأتي من الجنوب إلا إن خدمته، افكار قادرة على إسعاد العالم بهدوء دون أن يستعبد من جديد، فالشرق والغرب حسب العقل الغربي لن يلتقيا وإن مُدت الجسور لاستقدام اللاعبين من أحياء الفقر إلا أنهم يبقون في خانة التابع لعقود الشركات - الغربية - كسلع يتحكمون بجودتها وبريقها ومتعتها.
لأجل هذا صار المواطن - البعض - لا شعوريا متحيزاً، يشجع منتخبات الجنوب الفقيرة - الأندية - في البطولات الكبرى، لا الأوروبية الشمالية الغنية، هذا العرف امتد إلى تشجيع أندية الجنوب الفقير في الدول الغنية ذاتها، من نابولي إلى ليفربول ومن برشلونة حتى مرسيليا.
من يملك روحاً وطنية حرة، ليشجع بريطانيا ضد الأرجنتين، أو الولايات المتحدة مقابل فنزويلا، والجزائر ضد فرنسا، فمعادلة التاريخ دم والحق بين مختل مُستعمر وصاحب أرض، ومن قال أن اللعبة ليست مسيسة ؟
الروح الوطنية
تمثل كرة القدم واتحادها قمة الهرم الرأسمالي الذي يمعن في استغلال الفقراء في عصر صارت متعة المشاهدة للبطولات مدفوعة عبر شركات البث الفضائي، الأندية تحولت لأماكن ترفيهية، كرد عملي على حالة الوعي الجماهيري والروح الوطنية الثورية حتى في عقر الدول الغنية، فالهوية والجغرافيا والبقاء، يُعاد تشكيلها في الملاعب وبين الجماهير.
لهذا، يصر انتصار فريق في العالم الأوروبي، مازالت كرة قدم على أراضيه لعبة متواضعة أو في أفريقيا أو آسيا وأميركا الجنوبية فعل حزن وعبئ وطني على اللاعبين ترتبط روح الهوية الوطنية، مثلاً خسارة منتخب البرازيل أمام ألمانيا تفتح جرجًا وطنيًا عميقًا لا ينسى، لذا إن أردت إثارة برازيلي ذكره بخسارة المنتخب أمام الأوروغواي في كأس العالم عام 1950، وإن أردت أن يلعنك الايطالي ذكره باجيو و ركلة الجزاء في نهائي عام 1994 أمام البرازيل، الروح الوطنية من تحرك الجماهير، ظل باجيو واقفاً، وكاد المعلق أن يغمى عليه، صرخ قائلاً:" سقراط مات مسمومًا، ونيتشه مات مجنونًا، ويبدو أن باجيو مات واقفًا “ هم مازالوا يلعنونه ولم يغفروا له.
البيانات والاحصائيات
كل هذا لا يشكل شيئاً أمام العقول التي تدير الإتحاد الدولي " فيفا " الذي تنبه إلى أن هذه التجارة الرائجة - اللعبة - صارت تعتمد على إحصائيات وبيانات تحدد قوة المنتخبات - الأندية - وقدراتها الذهنية والبدنية على الفوز حتى قبل بدء المباريات، بيانات عُززت بالذكاء الاصطناعي.
وهذه التجارة تمثل مقدمات لاقتصاد العالم القادم، لذا لا غرابة لو وجدت حذاء يحسب مسافات يقطعها اللاعب في المباراة أو يحصي عدد ضربات القلب وعدد اللمسات، كما لا تستغرب لو شاهدت كرة تساعد الحكم في اتخاذ القرار، في عالم تسيطر عليه شركات عملاقة مثل: اديداس ونايك وبوما وغيرها، إلى جانب شركات التسويق والسوشيال ميديا التي نجحت في إطلاق تفكير تفاعلي لخلق لاعب أساسي ممثلًا بتكنولوجيا متقدمة تحلل كل شيء، للفوز بكل شيء.
ليبقى الأغنياء يجنون الأرباح وتتعاظم ثرواتهم بواسطة الفقراء الذين يذهبون بعيدًا في تتبع الحملات التسويقية والإعلانية للشركات التي بقدر ما ترغب في مشاركتهم بتجاربها بقدر ما تضمن أرباحها.
من للفقراء ؟