قطار الجنوب
وصلت مدينة العقبة الساعة الثامنة والنصف صباحا، وهو وقت مناسب تماما لبدء الدورة التدريبية التي ننوي عقدها هناك لعدد من سيدات الجنوب في أحد المشاريع التي ننفذها ، بعد أن استغرق الطريق من بيتي وسط العاصمة عمان إلى العقبة ساعة ونصف تقريبا، وفي الطريق انضمت لنا في الرحلة مشاركات من محطة الكرك وأخريات من معان "مثلا".
كان هذا الحلم سيجعل أسبوعي الحافل سهلا وميسرا وخاليا من التوترات والتأخير، وكذلك الحال مع ثمان سيدات من محافظات الجنوب اللواتي اضطررن تحمل عناء المواصلات وكلفتها بل وشحها أحيانا في أماكن سكنهن، على مدار الخمسة أيام مدة الدورة.
عبلة الحجايا إحدى المشاركات من لواء الحسا "155 كلم" عن العاصمة عمان وتتبع لمحافظة الطفيلة تقف ساعة كاملة صباحا لانتظار أي من الباصات العمومية على الطريق الصحراوي التي تمر بالقرب من البلدة التي لا يتوفر فيها أي مجمع للنقل العام حتى الآن، لتذهب إلى مدينة معان، لتستقل باص آخر ربما تضطر للإنتظار ساعة أخرى حتى ينطلق الباص بعد أن يكتمل عدد الركاب، لتصل بعدها للعقبة، وفي الخمسة أيام كانت دائما متأخرة، بسبب المواصلات طبعا.
تجربة الحجايا مع المواصلات قديمة كما هو الحال مع جميع سيدات بل وسكان الجنوب قاطبة، مما دفعها بحكم نشاطها بالعمل العام والمجتمع المحلي للتحرك ومحاولة المساهمة بإيجاد حل، فقامت بتأسيس أول جمعية متخصصة بالنقل في الأردن 2019 "جمعية رائدات الحسا التعاونية"، وحصلت على تمويل لشراء باص لنقل السيدات عبر خط داخلي بين مناطق اللواء المختلفة وبين المنشآت الصناعية التي تعمل بها السيدات هناك وكانت المواصلات العائق الأساسي لزيادة نسبة العاملات فيها.
الحجايا توجهت لهذا الحل بعد مرور ثلاث سنوات من إعلان وزيرة النقل آنذاك لينا شبيب نية الأردن للتوجه لتنفيذ مشروع وطني للسكك الحديد بتكلفة 2.8 مليار دولار، تغطي المملكة بمحور من الشمال للجنوب، ومحور آخر من الشرق للغرب.
طبعا الدراسات لذلك المشروع كانت بدأت في 2008، وأعلنت العديد من التفاصيل في الأشهر التي تلتها، ورافقها جدل واسع في العام 2016 حول خط سكة حديد حيفا والتخوفات التي دارت حول هذا المشروع ليست مجال بحثنا هنا.
إلا أن الثابت أن الأردن كدولة وكمؤسسات بحاجة لخطة نقل شاملة تخدم المواطن الأردني أينما كان، إذ لا يعقل أنه بعد مرور ما يقارب السنتين من تجربة اللامركزية شكلا، ما زالت بعيدة عن التطبيق في المضمون، وأحد أسباب ذلك أنه لا يمكن ربط العاصمة بالأطراف ذهابا وأيابا في ظل غياب شبكة نقل آمنة وسريعة وكفؤة، والدراسات العالمية أثبتت أن القطارات أفضلها.
كلنا نعلم ما هي الفائدة التي ستعم لو نفذ فعلا مشروع السكة الحديد بعيدا عن مسألة الربط، فنحن مررنا بهذه التجربة سابقا قبل تأسيس المملكة: كثير من القرى والمدن والتجمعات التنموية تأسست على أطراف خط سكة حديد الحجاز، وبسببها، استوطن ابن معان المفرق، وأبن الشوبك في الزرقاء، وابن الطفيلة في عمان.
كثير من أهداف التنمية المستدامة من مجابهة الفقر وتعزيز التعليم والصحة والعدالة الإجتماعية ومدن ومجتمعات محلية مستدامة، ستتحقق حكما في حال ربطت أطراف المملكة ببعضها وأصبح أبن الكرك مثلا يستطيع أن يعمل في العاصمة نهارا وينام في بيته ليلا براحة وبسهولة.
وربما يكون الحال أفضل بأن تشجع سهولة المواصلات المؤسسات الصناعية والشركات الكبرى أن تستثمر في الجنوب المتسع مساحة ورحابة صدر، ويجد الشباب والشابات فرص عمل تنقذهم من شبح البطالة الذي يدفعهم للمسير على الأقدام عبر الصحراوي والتوجه نحو الديوان الملكي طلبا لحقهم في العمل.
الزيارات الميدانية المخططة و المصممة مسبقا بحضور تم انتقائه بعناية فقط، مهمة ، ولكنها ليست كافية لنقل خطط التنمية من على صفحات صماء، لمشاريع حقيقية وواقعية، تبدأ من الداخل و موجهة للداخل، عبر عقول محلية ووطنية تقول الحقيقة ولا تجامل في عرض الواقع في كل مكان بالأردن.
واقتراح حلول واقعية وقابلة للتطبيق تخرج مجتمعات بأكملها من الأردنيين في الأطراف من شبح الشعور بالإقصاء والتهميش بسبب تعثر خطط التنمية وتدني الواقع الإقتصادي بشكل لافت، مما رفع مستوى التذمر والشكوى بشكل لم يشهد الأردن له بهذا المستوى عبر تاريخه.
لا بد لنا ان نواجه أنفسنا كمواطنين أولا وكمسؤلين ثانيا بأن الحل لكل المشاكل والتحديات لا يأتي بالتاشير على المشاكل فقط، وإنما المساهمة كل حسب دوره بإيجاد حلول واقعية، فنحن لا نملك ترف الانتظار والتنظير بعد اليوم.