فن اعتزال الفن

الرابط المختصر

في تسعينيات القرن الماضي بلغت موجة أو موضة اعتزال الفن لأسباب دينية ذروتها بعد أن كانت قد بدأت في بواكير الثمانينيات بإعلان الفنانة شمس البارودي اعتزالها وارتدائها الحجاب ثم النقاب ثم الاكتفاء بالحجاب، لتتوالى بعد ذلك سلسلة الفنانات المعتزلات مثل سهير البابلي ونورة وشادية ومديحة كامل وشهيرة وهناء ثروت وهالة فؤاد وليلة وماجدة حمادة وهدى رمزي وسهير رمزي .. وعدد من الراقصات بعضهن معروف مثل سحر حمدي التي اشتهرت بأداء أغاني إيحائية وأخريات لم يعرفنَ إلا حينما أعلن عن اعتزالهن وارتدائهن الحجاب.

 أبدى بعض المشتغلين في المجال الثقافي والنقد الفني في مصر شكوكهم حول ظاهرة اعتزال الفنانات وأنها قد تكون حركة منظمة مدفوعة فكرياً ومالياً من دول التطرف الديني العربية، وذلك لما يسبق الاعتزال ويتخلله ويعقبه من زيارات مكوكية وإقامات طويلة أحياناً في تلك الدول، الأمر الذي يستشف من عدد من التصريحات لبعض المعتزلات مثل  الفنانة سهير البابلي التي قالت أنها قامت بعدد من الزيارات للسعودية قبل الاعتزال ثم أقامت فيها لمدة سنتين بعد أن استخرج لها من ساعدوها على “التوبة” إقامة رسمية لتتفرغ للعبادة! وأكثر من ذلك ما صرحت به الفنانة شمس البارودي وأكده زوجها الفنان حسن يوسف في أكثر من مناسبة أنها “رفضت عروض بالملايين لتظهر على قنوات دينية وتقدم برامج فيها”، هذا بالإضافة إلى بعض حالات الزواج بين المعتزلات ورجال أعمال أو أمراء من تلك الدول، وكذلك  انخراط عدد من المعتزلات في مؤسسات إعلامية دينية أو جمعيات خيرية ممولة من شخصيات تدير مؤسسات تدعم الفكر المتطرف.. إلا أن أكثر ما يثير الريبة في عمليات اعتزال الفنانات تحديداً هو توقيتها الذي يأتي غالباً أثناء تألقهن في عمل أو أعمال فنية متتالية، هذا فضلاً عمّا يسبق ويصاحب ويتلو هذه العملية من فرقعة وطرقعة إعلامية تتناقض ومفهوم الاعتزال نفسه.

 اتخاذ الصحف والقنوات الفضائية من قرار اعتزال إحدى الفنانات أو أحد الفنانين مادةً للإثارة يعد أمراً طبيعياً ومتوقعا، أما استخدام هذا القرار في حملات ترويجية ذات طابع دعوي من قبل المعتزل ومسانديه؛ يسم الفن بالضلال والانحلال ويصف التخلص منه بالتوبة عن الخطايا وسلوك طريق الهداية.. فهو ما يستوجب التأمل، حيث تتوالى المقابلات الإعلامية مع المعتزلة لتتحدث عن رحلتها من “الضلالة إلى الهدى ومن الغي إلى الرشاد..”، مع استخدام عناوين نمطية غائية مثل: “الفنانة التائبة تطل على متابعيها بالحجاب.. الفنانة التائبة تدعو لزميلاتها أن يعرفن طريق الحق الذي عرفته..”.

 اعتزال أي عمل أو مهنة هو قرار شخصي واختيار ينبغي احترامه وعدم التنمر ضد من اتخذه تحت أي ذريعة، إلا إذا تحول هذا القرار إلى حملة دعائية لفكر وتيار متشدد وتشويهية ضد تيار وفكر آخر، فحينها يخرج عن نطاقه الفردي ليصبح قضية شأن عام يحق للكافة تناولها ومناقشة أبعادها الباطنة قبل الظاهرة، والتساؤل عن سبب الضجة والبروبغندا التي تصاحبها وما إذا كانت طبيعية بحكم أن المعتزل أو المعتزلة شخصية عامة لها جماهير كثر أم أنها حركة فكر عنيف  ممنهجة لشيطنة الإبداع وتمجيد الفكر المتطرف المتخلف.

 الفنانة سهير البابلي التي اعتزلت دون مقدمات وارتدت الحجاب في منتصف التسعينيات أثناء عرض مسرحية “عطية الإرهابية” التي كانت من بطولتها ومن إخراج جلال الشرقاوي، أبت أن تنسحب بهدوء، فظهرت في عدد من المقابلات لتروي رحلة “التوبة” وكانت هذه المقابلات تبث في مهرجانات اتحاد الطلبة في الجامعات المصرية -التي كان يسيطر على معظمها التيار الإسلامي- بمناسبة ودون مناسبة وتستخدم في حملات دعوية طوال العام الدراسي لحض الطالبات على ارتداء الحجاب.  ولا يخرج عن هذا السياق قرار الممثلة صابرين الاعتزال وارتداء الحجاب منذ 20 سنة تقريباً ومباشرةً عقب النجاح الباهر الذي حققته في مسلسل أم كلثوم عام 1999 والتفرغ ليس للعبادة، وإنما لتقديم برامج دينية على قنوات ممولة من دول التطرف الديني عينها، وذلك قبل أن تعود إلى التمثيل مستبدلةً الحجاب بباروكة بناءً على فتوى من الشيخ Daddy بن Cool.

 الممثلة ومقدمة البرامج بسمة وهبة سارت على الدرب نفسه، فارتدت الحجاب ليكون بطاقة دخولها لقناة اقرأ الفضائية مطلع هذه الألفية، فبدأت تقدم برامج استعراضية بنكهة دينية، وما الفنانة حنان ترك منهن ببعيد، فقد ارتدت الحجاب واعتزلت ثم عادت ثم اعتزلت ثم عادت مرةً أخرى من خلال الإذاعة، والشيء نفسه بالنسبة للفنانة حلا شيحا التي اعتزلت فتحجبت فتنقبت وعملت داعيةً دينيةً في كندا -لا تسأل كيف- ثم عادت فخلعت الحجاب واستأنفت التمثيل عام 2019.

 أخيراً وليس آخراً في فيلم “عودة التائبين”، يبقى المغني اللبناني فضل شاكر الحالة الأكثر تطرفاً حينما اعتزل الغناء منذ أكثر من 10 سنوات لينضم لجماعة الشيخ أحمد الأسير الإرهابية في مدينة صيدة ليحمل السلاح مقاتلاً مع الجماعة ويظهر  في مقطع فيديو يتفاخر فيه بإطلاق النار على جنود الجيش اللبناني مهدداً بقتل أي منهم إذا تعرض لشيخه للأذى، ليطل سنة 2017 على الجمهور حليق اللحية معلناً براءته من الجماعة والشيخ ونيته العودة إلى الغناء، وهو ما حدث فعلاً حيث بدأت ألبوماته الجديدة بالصدور منذ عام 2018 تزامناً مع صدور أحكام بالسجن ضده بتهم الإرهاب وحمل السلاح والتحريض على القتل.

 منذ أيام أثار خبر اعتزال مغني أردني اسمه أدهم النابلسي جدلاً ونقاشاً على وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي، حيث ظهر النابلسي في مقطع فيديو قصير مخاطباً متابعيه بقوله “أنه يحمل لهم خبراً سعيداً يتعلق بمستقبله، حيث قرر اعتزال الغناء لأنه اكتشف أن الهدف من الحياة ينحصر في تحقيق مرضاة الله التي لا تتحقق بهذه الطريقة”، ثم تلى ترتيلاً آية: “وما خلقت الإنس والجن إلا ليعبدون”، سائراً على طريق من سبقوه من المعتزلين ممن أبوا الرحيل إلا بزفة ورنين وطنين.

 الأهم من الاستغراق في تحليل ظاهرة اعتزال الفن هو دراسة أسباب عودة الغالبية الساحقة من المعتزلين خصوصاً المعتزلات من الفنانات وخلعهن الحجاب بعد سنوات،إذ يجدر توثيق تجربتهن وتشجيعهن على البوح بالسبب الحقيقي الذي دفعهن إلى اتخاذ قرار غيّر حياتهن المهنية والعائلية لفترة طويلة ثم الاستدارة 180 درجة والتراجع عنه، إذ سوف يساعد هذا في دراسة الظاهرة برمتها ويتيح التعامل معها بما يحافظ على حرية الاختيار واتخاذ القرار مع حماية الفن والإبداع من التشويه والمحافظة على مكانتهما العلية.

 إذا كان اعتزال الفن والعودة إليه قرارات فردية وحرية شخصية واجبة الاحترام، فإن فن وأدب الاعتزال قيم أخلاقية وسلوكية ينبغي على المعتزل التحلي بها، وإذا كان الرخص يتجسد في ما يلجأ إليه بعض المنتجين والمخرجين السنمائيين أحياناً من زجهم لمشهد ساخن في فيلم هابط لتحذفه الرقابة فيثير ضجة فتتهافت عليه الجماهير، فإن الأرخص من ذلك هو  اعتزال التمثيل للناس والغناء لهم من أجل التمثيل والغناء عليهم.