صعدتها ثلاثا وودعتها بعصا
استذكرت ما كنت أحفظه منذ دهر سحيق ما كتبه عباس محمود العقاد عن صعوده لدرجات بيته حين قارن صعوده لها في شبابه قفزا ثلاث درجات في الخطوة الواحدة وانتهاءا بصعوده اليه متثاقلا بعد ان مضى به العمر ، وأثقلته الأيام، ونالت من صحته ما نالته.
أقول ذلك وأنا أستذكر رحلتي في تغطية مجلس الأمة "النواب والأعيان" حين كنت أقطع درجات المبنى ثلاث ثلاثا، ثم درجتين درجتين،ثم درجة درجة، ثم صرت أقطعها متثاقلا على نفسي مستعينا احيانا بعصا، حتى اضطررت للكف عن الذهاب إلى المجلس خوف أن تأكل درجاته مني ما تبقى لي من صحة وعافية خلتني تركتها على أدراجه خلفي على مدى 28 سنة مضت كأنها"طيف بارق لمّاح "على حد قول الشاعر.
وعلى درجات مجلس الأمة الخارجية والداخلية ثمة الاف الذكريات والأحداث يمكنني تذكر بعضها وكأنها حدثت الساعة،فيما تغيب الاف القصص الأخرى التي توارت خلف غلالات الماضي، فلا تستطيع لها استدعاءا، ولا تذكرا أو استذكارا.
كانت تلك الدرجات تثير في نفسي الكثير من الأسئلة، وفي أحايين كثيرة كانت تلك الأدراج تثير فضول الصحفي وهو يشاهد إما عن قرب أو بعد الكثير من الكولسات والتفاهمات بين النواب أنفسهم او بين وزراء ونواب، أو بين الصحفيين والنواب، لكن الذي كان يشد انتباهي اكثر هو حالة المواطنين الذين يراجعون النواب فيصعدون تلك الأدراج يملؤهم الأمل، ويهبطونها وهم في جلهم بلا أمل، وهذا ما دفعني ذات سنة خلت للكتابة عن علاقة درجات المجلس بالمواطنين، يوما ــ حسب ذاكرتي ـ قال لي احد النواب" تركت كل ما في المجلس واهتممت بدرجات المبنى ؟!"، حينها قلت له " هذه الدرجات هي الوجه الحقيقي للمجلس حيث يفقد المواطنون الأمل ".
فقد المجلس النيابي التاسع عشر الحالي البريق والهالة التي كانت للمجالس السابقة، وأصبح حضوره في وسائل الإعلام متواضعا الى أبعد الحدود، ولم يعد يحظى باهتمام الجمهور الأردني، وفقد تأثيره في استقطاب الاهتمام به وبأخباره،لأسباب عديدة منها مشكلة الثقة والإيمان الجماهيري به، وزهد وسائل الإعلام في الإهتمام بتغطيته، فضلا عن عدم اهتمام النواب أنفسهم بالاتصال والتواصل مع الإعلاميين البرلمانيين الذين في اغلبهم لا يتمتعون بالخبرات الكافية، فضلا عن عملهم في وسائل إعلام الكترونية هي نفسها لا تبدي اهتماما جيدا بتغطية البرلمان.
خفت صوت النواب في السنوات القليلة الماضية، وتقلص اهتمام الصحافة بهم، وبقي الجمهور عازفا تماما عن معرفة ما يدور في جنباته، فيما بقيت انا خارج كل هذا المشهد أنظر الى درجات المجلس، وأحدق في وجهه، فيما صوت عصاي الصوت الوحيد الذي يطرق مسامعي وأنا أهبط تلك الدرجات فيما ابتسامة تسرق نفسها مني على استحياء وأسأل عن" الأمل ..".