شيرين في عليين
من غير الضروري أن تعرف الشهيدة شيرين أبو عاقلة أو أن تكون قد التقيتها لينفطر قلبك ويتفجر في صدرك غضبك حيال اغتيالها بدم بارد من قبل كتائب جوقة القتلة المتسلسلين في جيش الاحتلال الإسرائيلي، إذ يكفي أن تكون شبه إنسان لديك أطلال مشاعر ومن الأخلاق بقية؛ لتدين القتلة تلقائياً وبالسجية وتلمع عيناك بدمعة أسفاً وحسرةً على الضحية داعياً لها بالراحة الأبدية ولأهلها ومحبيها بالسكينة والنفس الرضية.
من المؤكد أن شيرين في كل مرة كانت تخرج فيها معتمرةً قبعة الصحافة وسترتها، لم تكن تقول «إلى لقاء» وإنما «وداعا»، ولربما لم يكن بوسعها قَطّ أن تؤكد تلبية دعوة على العشاء أو حضور فرح أو اصطحاب طفل من أقاربها إلى نزهة.. لأنها لم تكن يوماً متأكدةً أنها سوف تعود بسلام إلى بيتها في آخر النهار أو في صبيحة اليوم التالي، فمن عساه أن يضمن ساعته التالية في جحيم مستعر كالذي في فلسطين التي كتب على أهلها مقارعة الرصاص بالحجارة والدبابات بزجاجات المولوتوف والطائرات المقاتلة المتطورة بالاحتماء بتسوية «بدرون» في بناية متهالكة.
شيرين كانت تقول أنها تسعى دائماً لضمان سلامة فريقها وأنها ليست ساعيةً للموت، وإنما كانت تعمل على توثيقه لكي لا ينسى العالم جيلاً بعد جيل الجرائم التي ترتكب في حق أبناء وطنها وبناته، لتختتم حياتها برسم لوحة شرف بدمائها الزكية لكل الأحرار المناصرين لهم، وتسطير وثيقة عار لجموع استعذبت مشاهدة أطفال وشباب وشيّاب فلسطين يُقتَلون، تماماً كما لو كنا في عصر حلبات الإعدام الرومانية، حيث الضحية تُقتَل بالتدريج ببراثن أسد جائع أو بين أقدام خيول جامحة تركض في اتجاهات متعاكسة أو بلهيب زيت مغلي.. وسط ابتهاج وصفير وتصفيق الحاضرين الذين أنبل من فيهم صعلوك عاشق لرائحة وطعم الدم المسفوك.
إذا كان شرّ البلية أن يغدو الشذوذ أصلاً لا يستثير استغرابك، فلا تندهش مثلاً من إعلان القتلة نيتهم إجراء «تحقيق» في جريمتهم ليدينوا في نهايته ضحيتهم، إذ ذاك ديدن المجرمين، فإن ما لا يمكن أن تألفه النفس وتستسيغه وإن تواتر وتكرر، هو الرائحة الكريهة التي تفوح مع فحيح أفواه أسراب النيكروفيليا الذين يتكالبون على جثامين الضحايا ليمارسوا على أشلائها رذيلة شبقهم الاستئصالي وتوحشهم الفكري والفطري، فتراهم وقد تعروا من كل قيمة وشعور لتبدوا سوآتهم وهم ينهون عن الرحمة ويأمرون بالنقمة، محرمين الدعاء لمن قضى ومضى وهو يؤدي من الواجب أنبله، لا لشيء إلا لأنه مختلفاً عنهم ومخالفاً لهم في الدين.
نفايات النيكروفوليين الأخلاقية التي غمرت مواقع التواصل الاجتماعي وسدت آفاقها وضجيج عواؤهم على كل محب لشيرين داعي لها بالرحمة ولأهلها بالصبر والسلوان.. تجسد صورةً مشوهةً تعجز الألسنة عن وصف قبحها وتحار العقول في تفسير تقديس النيكروفوليين واستعذابهم لها، ومما يزيد في حيرتك هو وقاحة هؤلاء النيكروفوليين غير المسبوقة التي تجعلهم يصدقون أنه بوسعهم التحدث «عمّا يصح وما لا يصح» وهم من إذا أراد التفاخر بإنجاز لم يجد سوى القتل أو الحض عليه أو مباركته وازدراء الآخر وامتهانه حياً وميتا..منجزاً ولبئس ما ينجزون، إذ لم يقدم هؤلاء الضالّون المُضَلَّلون المُضِلّون للعالم سوى جهلاً وظلاميةً وكراهيةً ممنهجة مقدسة، ثم سوء الختام وعبثية الظلام وسخرية الأوهام.. أن يؤمن لشذاذ الآفاق الافتراضية هؤلاء جازمين «أنهم في الجنة» بعارهم وعوارهم ومن سمى فوقهم طبقات «ليس له إلى جنتهم سبيل».
في المقابل، فإن المؤسسات الدينية في بلاد العربان والمسلمين ورجالاتها المعممين المحافظين أو جوقة مدعي «المرونة والاعتدال» من مرتدي البدلات وربطات العنق أو الجينز والكتّان «زي السبوبة وعدة النصب»، كما هي عادتهم يصمتون حيث ينبغي الكلام ويملؤون الدنيا صراخ حيث يرجى صمتهم. فلم ينبس أحدهم ببنت شفة مديناً هذا المد العاتي من الكراهية والانحطاط الأخلاقي، الأمر الذي يبدو منسجماً مع قناعات هؤلاء الذين ورثوا البغض وورثوه ودَرَسوه ودَرَّسوه، فما عساه المنتظر ممن ذاد عن حمى أدبيات البراء والولاء والتمييز والإقصاء.. فهل يجرؤ أياً من مصدري البيانات التي تؤيد التكفير وتحارب الكلمة الحرة؛ أن يزجر مانعي الرحمة محرمي المحبة والحزن على فراق الأحبة؟ هل يقوى فقهاء إرضاع الكبير وتزويج الصغير وضرب المرأة وتبرير امتهانها وتكريس الذم في حقها والتحقير.. أن يخرجوا على الملأ ويرفعوا أكفهم إلى السماء داعين لشيرين بالرحمة أو على الأقل يُؤمِّنوا خلف داعي لها بذلك؟ هل بمقدورهم أن يصفوا كل من ينهى عن طلب الرحمة لشيرين بأنه آثم مستوجب غضب الله؟ لكن أنى لهؤلاء الإقدام وبلوغ هكذا مرام؛ وهم حينما كانت شيرين تتلقى الرصاصة وتسقط على ثرى فلسطين الطاهر وتروي بقعةً منه بدمها الزكي، كانوا يتفيؤون ظلال المنابر ويشحذون أوتار الحناجر لينشدوا ترنيمة البغضاء والتمّر والإقصاء ضد كل من هو مخالف لهم في الدين أو الطائفة أو المذهب أو حتى الرأي.
رحلت شيرين لتبقى أيقونةً للكلمة الحرة وللحقيقة حلوةً كانت أو مرة، ولتظل دماؤها الزكية لعنةً تطارد قتلتها وشاهداً على وضاعة من أرادوا أالتمثيل بسيرتها ومسيرتها بعد موتها بحجب الصلوات عنها والحزن عليها، رسل الحقد سفراء البغض الناهين عن المعروف الآمرين بكل ما شذّ عن المألوف.
فلترقدي بسلام والترتقي في عليين، متدثرةً بكبرياء العظماء، مترفعةً عن دناءة المجرمين ونرجسية المتألهين الذين استبد بهم الإحساس بالعظمة -وليس لهم إلى أهدابها سبيل- حدّ تصديقهم أنهم «خزنة النار وبوابي الجنة بِحورها وما يجري تحتها من أنهار».