داوود كُتّاب، من التالي

أرشيفية- داود كتاب في المنتصف

  “Whoever would overthrow the liberty of a nation must begin by subduing the freeness of speech. كل من يريد الإطاحة بحرية أمة ما، فعليه أن يبدأ بإخضاع حريتها في التعبير”.

 

 هذه المقولة ل«بنجامين فرانكلين» تقاس بميزان الذهب عند الأمم التي أدركت أن كرامتها الجمعية تتحقق باحترام كرامة أفرادها التي بدورها تتحقق حينما يتمتع الفرد بحقوقه وحرياته دون تقييد أو تمييز، وفي طليعة هذه الحريات حرية الرأي والتعبير التي تمثل الخيط الفاصل الرفيع بين مجتمع العقل و مجتمع القطيع.

 

 أما الأمم التي توارثت وتواترت أجيالها رهاب الكلمة وإرهاب الفكر، فإن مقولة «فرانكلين» تلك وغيرها لا تزن عندها جناح بعوضة، فالرأي ما تراه السلطة، وما عداه هرطقة تستوجب إحالة مرتكبها إلى محاكم التفتيش لزجر صاحبه ومعاقبته حتى «يثوب إلى رشده».

 

 داوود كُتّاب، صحفي فلسطيني يحمل الجنسية الأمريكية، والدته وزوجته أردنيون، من أوائل الذين أسسوا الإعلام المجتمعي في الأردن من خلال «موقع عمان نت وراديو البلد»، ومن الذين أشرفوا على إعداد تحقيقات وتقارير استقصائية كان لها الأثر الأكبر في كشف مخالفات وانتهاكات في عدد من القطاعات وترتب عليها إحداث تغيير ملموس أحيانا، ومن ذلك تحقيق «خلف جدران الصمت» سنة 2012 والذي كشف لأول مرة عن انتهاكات صارخة ضد الأطفال ذوي الإعاقة الملتحقين ببعض دور الرعاية ومراكز التربية الخاصة، هذا فضلاً عن استقصاءات تناولت قضايا سياسية واقتصادية وتنموية. كُتّاب أيضاً صحفي له تواجد ملحوظ على صفحات صحف عالمية مثل الواشنطن بوست وغيرها، وكذلك على شاشات الفضائيات الأكثر تأثيراً في العالم مثل قناة سي ان ان.

 

 خدم كُتّاب الأردن من خلال «شبكة الإعلام المجتمعي» التي دربت عدداً من الإعلاميين والصحفيين، وفتحت آفاقاً للكتابة الحرة والتنويرية، وأتاحت للصحفيين الشباب مساحات للمبادرات الإبداعية، وما لا يعرفه كثيرون، أن كُتّاب أنفق الكثير من ماله ومال أسرته الخاص لإبقاء الشبكة قائمةً في ظل ظروف جائحة كورونا المستجدة و جائحة الرفض المزاجي المستوطنة لتمويل مشاريع الجهات غير الحكومية، حتى وإن كانت الجهات الممولة هي نفسها التي تقيم شراكات وتنفذ مشاريع وبرامج حكومية.

 هذه المكانة المرموقة في عالم الصحافة والإعلام وهذا التاريخ المهني الحافل لداوود كُتّاب، لم تفلح وما كان لها ذلك، في تجنيبه «مفرمة» قانون الجرائم الإلكترونية التي لا تبقي إلا من التزم الصمت ولا تذر إلا من تاب وتبرأ من تناول الشأن العام بمنظور مخالف أو دفعته رعونته لأن يكون له رأي في قضية ما.

 

 منذ بضع أيام، تم توقيف كُتّاب في مطار الملكة علياء حال عودته مع أسرته من لندن، والسبب طبعاً : «وجود شكوى بموجب قانون الجرائم الإلكترونية»، ولم يطلق سراحه إلا بعد أن تم تكفيله بعد منتصف الليل في مركز أمن البيادر، بعد أن تعهد أن يحضر صباح اليوم التالي لكي يتم إبلاغه «بالجرم الذي ارتكبه»، واستوجب توقيفه حال ما وطأت قدماه أرض المطار الذي بات وبكل أسف أشبه بكمين على الطريق الصحراوي.

 ثمة أسئلة بديهية تطرح عادةً في مثل هذه المواقف لكنها  تبدو في سياق قانون الجرائم سطحيةً ومضيعةً للوقت، خصوصاً إذا كنا بصدد توظيف للقانون وليس تطبيقه، فما جدوى السؤال عن:  «لماذا الآن وهذه الشكوى مقدمة منذ سنتين؟ لماذا انتظار الرجل في المطار وهو عائد وليس فارّ؟ لماذا لم يتم إبلاغه بالشكوى خلال المدة السابقة التي استطالت حوالي سنتين؟»، ولأن شرّ البلية ما يضحك، فلربما كانت «الغلطة غلطة كُتّاب الذي أغلق هاتفه الخلوي لمدة سنتين فتعذر الوصول إليه وإبلاغه حيث يعيش في ادغال مقطوعة لا يصلها ارسال ولا مرسال»!

 

 لن نناقش ما يعتور قانون الجرائم الإلكترونية من عوار في المضمون من حيث عناصر الجريمة بركنيها المادي والمعنوي وما إلى ذلك من الأحكام المتعلقة بعلوم القانون الجنائي الذي أمضينا سنوات في دراسته، فهذا محله بحث متخصص قد نشرع في إعداده قريبا، لكن ما ينبغي مناقشته في هذا المقام، هو  التأثير السلبي لهذا القانون على عملية الإصلاح السياسي والاقتصادي التي تحاول الدولة التسريع من وتيرتها، وأثره المدمر على جسور الثقة بين المواطن والسلطة، تلكم الجسور التي انهار جلّها وما تبقى منها يزداد ترنحاً يوماً بعد يوم حتى بات المأمون لدى غالبية المواطنين عدم المغامرة بعبورها والبقاء في الجهة المواجهة للدولة.

 من نافلة القول أن قانون الجرائم الإلكترونية وحزمة الجرائم الفضفاضة التي يزخر بها قانون العقوبات المتعلقة ب«تكدير السلم العام.. والتشجيع على الفتنة.. وازدراء الأديان.. وتعكير صلات الدولة بدولة أجنبية..»،تشكل منظومة متكاملة تهدف إلى تعميق الحدود والقيود التي تكفل بقاء حرية الرأي والتعبير تدور في فضاء ملبّد بالميوعة خارج عن نطاق التأثير والتغيير، وتحويلها إلى أداة للتنفيس –إذا لزم الأمر- والتجمّل في حفلات ومؤتمرات الجهات المانحة وحقوق الإنسان، وقبل ذلك كله وبعده، استخدامها مبضعاً لتمزيق كل من يحاول الانفلات من عقال ما لا ينبغي أن يقال، كما شهدنا وسنشهد مع كثيرين ممن جهروا برأيهم، فكانت عاقبتهم أن اغتيلوا معنوياً وآثروا السلامة على مواجهة وحوش انتهاك الحق وامتهان الكرامة.

 

 خرج داود كُتّاب بعد حوالي ساعة ونصف من توقيفه في المطار قوياً مصرّاً على ممارسة حقه وحريته في التعبير والقيام بعمله صحفياً مهمته مناقشة قضايا الشأن العام وتناولها بالنقد والتحليل، ومن ورائه موجة عابرة للحدود مؤيدةً له مستنكرةً لما حدث معه، لتبقى رحى قانون الجرائم الإلكترونية تدور في انتظار ضحيتها التالية، وليبقى الخاسر دائماً في هذا المعترك العبثي وبكل أسف الوطن وبناته وأبنائه الذين يتطلعون لما يستحقونه من فضاءات تستوعب وتحترم أفكارهم وآرائهم وتطلعاتهم، لكن كيف وكهنة التحجر وسدنة التقهقر أمام التغيير الحتمي المقضي به في الناموس؛ يصرون على التجديف عكس التيار ومنطقهم «ماعز وإن طار».

اقرأ: الحكومة: عدم توقيف أي مواطـن في المطـار



 

أضف تعليقك