حرية الأمير في التعبير

 

انطلقت غالبية المشككين في الرواية الرسمية لأحداث قضية الأمير حمزة من تحليلهم لما رشح من معلومات وما تداولته الصحف الأجنبية من تحليلات وقراءات للمشهد ارتكزت في جلّها على استنتاجات ومقارنات ظرفية لا يسندها بالضرورة حقائق أو استطلاعات رأي موثقة تشير إلى موقف الرأي العام الأردني من الروايات المختلفة.

 تفنيد ما حدث بأنه لا يمكن توصيفه بمحاولة انقلاب كان نقطة البداية والنهاية للذين يرون أن ما جرى هو "أزمة مفتعلة" أو مجرد "خلاف داخلي" أو في أسوأ الأحوال "صراع مراكز قوى"، وهو استنتاج لا يلام أصحابه نظراً لنهج التعتيم وحظر النشر الذي يعتبر ممارسةً خارج سياق الواقع، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن اللافت للنظر أن البيانات والتصريحات الرسمية والرسالة الملكية لم تشر لا من قريب ولا من بعيد لمحاولة انقلاب بل إن الحديث كان وما يزال واضحاً عن تحركات جدية ترمي إلى زعزعة الاستقرار من خلال توظيف الغضب الشعبي الناجم عن الأوضاع المعيشية الخانقة والآفاق السياسية والحقوقية الضيقة، هذا التوظيف الذي مآله الطبيعي إذا ما استمر بوتيرة منتظمة تجييش الشارع وربما توجيه حالة الإحباط العام للقيام بأعمال من شأنها تقويض نظام الحكم. في حال صحت الرواية الرسمية المتداولة حول "الخطوات التي قام بها أطراف الفتنة" حتى الآن، فإنه يمكن توصيف ما حدث جنائياً أنه أعمال تحضيرية لعملية انقلاب بعيدة الأمد، والأعمال التحضيرية في فقه القانون الجنائي غير معاقب عليها ما لم تشكل بذاتها جريمةً موصوفةً في القانون، وهو ما يتحقق غالباً في الجرائم الماسة بأمن الدولة.

 ثمة من حاول عن عدم معرفة أو قصداً تسطيح المسألة وتصوير الحدث برمته على أنه انتهاك لـ "حرية الأمير في التعبير" لأنه صرح عن رفضه للأسلوب الذي تدار به الدولة واصفاً إياه ب"التخبيص" وغير ذلك من عبارات نعت نظام الحكم بـ "الظالم والفاسد..."، والأصل أن للكافة حرية إبداء آرائهم في الشأن العام ولكل مواطن الحق أيضاً في أن يعارض السياسات والأساليب التي تدار بها الدولة، متى كان ذلك منسجماً مع المكان والزمان اللذان يعارض الشخص في فضائهما، بعبارة أخرى، المعارض هو حتماً خارج منظومة الحكم وإلا لكانت معارضته لها وهو جزء أصيل منها انشقاقاً عنها وقلباً لظهر المجّن لأفرادها، وهو أمر مشروع إذا اختاره الشخص وقام به سلمياً متخلياً عن مكانه ومكانته لينتقل إلى الجهة المقابلة ليعارض كما يشاء.

 في المقابل، ثمة بون شاسع بين الاعتراض والمعارضة، إذ في حين ينسحب الاعتراض على الشعور العام بالاستياء من وضع أو أوضاع معيشية أو سياسية أو اجتماعية عامة؛ يتم التعبير عنه من خلال الاحتجاجات والاعتصامات والمظاهرات وربما الإضرابات ، فإن المعارضة كما يعرفها علم السياسة وممارساته هي السعي للظفر بالسلطة من خلال أدوات ومكانات دستورية وقانونية عمادها رصد وترصد أخطاء الحزب أو النظام الحاكم وتقديم طرح وحلول ضمن برنامج يتم تسويقه وإقناع هيئة الناخبين به.

 يعتمد توصيف وتصنيف ما قام به الأمير على ظاهر الرسائل التي اشتملت عليها خطاباته وتغيرداته والتسريبات الصوتية والمصورة من جهة، وعلى سياقها وغايتها ومآلاتها من جهة أخرى. فالأمير صرح في أكثر من مناسبة عن استهجانه وسخطه على الأوضاع بعموميتها، معلناً غير مرة أنه يؤيد الناس في إحباطهم وغضبهم، مستخدماً عبارات مباشرة مثل: "عدم الخضوع للظالم وضياع المقدرات والتخبيص....". الأمير بوصفه شخصية ذات علم ومعرفة وخبرة في السياسة وفن الحكم، يدرك تمام الإدراك أن هذا الخطاب في سياق ملتهب من شخص بمكانته؛ من شأنه تأجيج الغضب الشعبي وتجييشه في ظروف تواجه فيها البلاد جائحةً وضائقةً اقتصادية وتكالبات إقليمية، هذا فضلاً عن كون هذا المسلك هو بمثابة إعلان انشقاق عن المنظومة الحاكمة التي ينتمي إليها ويتمتع بمزاياها الدستورية والقانونية والمالية، ومرةً أخرى، هذا مشروع ومقبول متى اختاره الشخص وأعلن عن انتقاله من مصفوفة الهيئة الحاكمة إلى الشطر المقابل، حيث يصعب قبول الانشقاق عن المنظومة الحاكمة مع الاحتفاظ بما يمنحه الانتساب إليها من مزايا سياسية واعتبارية واقتصادية.

 لم تنطوِ رسائل الأمير على تشخيص محدد للفجوات والهفوات التي عبّر عن عدم رضاه عنها، مكتفياً بوصف الوضع العام "خلال الخمس عشرة أو العشرين سنة الماضية" كما قال في أحد التسريبات، وهو رقم له دلالته طبعا؛ بأنه "تخبيص"، وهذا النوع من الخطاب حينما يستخدمه سياسي محترف في أوضاع متأزمة أصلا؛ قد يفسّر على أنه تماهي مع تيار شعبوي لاكتساب قاعدة تأييد واسعة خصوصاً حينما لا يقدم الخطاب رؤية أو أجندة ولو بخطوط عريضة لمعالجة مواطن الخلل التي أثارت السخط.

المعارضة ظاهرة صحية وممارسة حميدة وركن من أركان النظم الديمقراطية إذا تم ممارستها وفقاً لقواعدها وأصولها المرعية دستورياً وسياسيا، وبين الاعتراض والمعارضة والانشقاق خيط رفيع قد لا تبصره أعين العامة لكنه عند الساسة أوضح من الشمس في وضح النهار، تماماً كما أن المكانة والمكان والسياق والزمان محددات أساسية وجلية تحكم حرية الأمير في التعبير.

 

أضف تعليقك