القدس وحماس والخبر العاجل والمصير الآجل
لا تقاس قوة الردع في أدبيات المقاومة بحجم الترسانة العسكرية ونوعيتها وأثرها على الأرض، لأن المقاومة عادةً أقل عدةً وعتاداً من الجيش المنظم الذي تقاومه، لذلك فحسابات الردع لحركات المقاومة توزن بميزان السياسة من حيث قدرتها على إرباك العدو وتشكيل جبهة داخلية ضاغطة عليه من قبل شعبه الذي قد يضيق ذرعاً بهجمات وعمليات تكدر السلم الداخلي وتمس الإحساس بالأمن والأمان الذي يعيشه مواطنوه.
في المقابل، قد تكون عمليات المقاومة العسكرية غير المحسوبة والمدروسة بدقة في سياقات معينة طوق نجاة لأحزاب أو حركات سياسية في داخل العدو المستهدف يوظفها للإطاحة بخصومه السياسيين بدعوى أنه فشل في حماية المواطنين وردع المقاومين، وقد تستثمر عمليات المقاومة في حملات ودعايات انتخابية كما يحدث عادةً في إسرائيل التي كثيراً ما وصل رؤساء وزراؤها من مجرمي الحرب مثل شارون ونتنياهو إلى سدة الحكم على جثث وأشلاء الفلسطينيين في الضفة والقطاع.
استطاع المقدسيون لفت أنظار العالم لقضيتهم وتعاطف قوى السلام معها لأنها قضية عادلة ومحقة، وكانت المواقف الدولية بما فيها الموقف الأروبي بل حتى الأمريكي يميل إلى جانبهم، إلى أن قررت حركة حماس كما هو متوقع وكما هو ديدنها الدخول على خط المواجهة وحجز مساحة لها لتكون رقماً معتبراً في المعادلة. التأييد الشعبي لتدخل حماس في أوساط العرب والمسلمين مفهوم لأنه يلبي حاجةً غريزيةً لمن يشعر بالاطهاد والضعف ويبحث عن أي ردة فعل تمس بهيبة عدوه وتعيد شيءً من الاعتبار المفقود، الأمر الذي تعيه حركة حماس وتعول عليه فتلتقي غاياتها السياسية مع هذا الاحتياج البريء لتجد فيه متنفساً وفرصةً لاستعادة شعبيةً تهاوت تحت وطأة الاستئثار بالسلطة التي أفضت إلى حصار خانق على قطاع غزة ل15 سنةً اكتنفتها ممارسات كشفت عن وجه هذه الحركة الذي يشبه أيديولوجيتها التي تقوم على منهجية الاستئصال والإقصاء وإهدار حقوق وحريات كل من يخالفها ويختلف معها، هذا فضلاً عن عمليات عسكرية غير مدروسة أدخلت قطاع غزة المضعضع في حربين خلفتا مئات الضحايا من الأطفال والنساء وألوف الإصابات دون تحقيق أي مكسب أو تغيير على الأرض.
قياس الأثر المتحقق لتدخل حركة حماس على قضية حي الشيخ جراح والمسجد الأقصى يحكمه حسابات النقاط التي حققها طرفي الصراع من هذا التدخل، فعلى الجانب الإسرائيلي، وجد نتنياهو الذي فشل في تشكيل الحكومة وتضخم ملفه القضائي المطروح على طاولة الادعاء العام ضالته للخروج من مأزق هو الأشد عليه في تاريخه، إذ أن أي شخصية قيادية ومهما انخفضت أسهمها لدى قواعدها الشعبية، سوف يتعاظم تأييدها في زمن الحروب والنزاعات إذا ما تصدرت المشهد وظهرت بمظهر الحامي والمدافع عن البلاد والعباد، كما أن خصم نتنياهو لابيد المكلف بتشكيل الحكومة بعد فشل الأول سوف يحاول أن يكون أكثر تطرفاً من نتنياهو لينسجم والواقع الذي فرضته المواجهة العسكرية بين حماس وجيش الاحتلال.
على الجانب الآخر، فإن عدد الضحايا في أول 12 ساعةً من الهجوم الإسرائيلي على قطاع غزة رداً على الرشقات الصاروخية لحركة حماس بلغ 27 شخصاً من بينهم 9 أطفال قضوا وهم يتهيؤون لتناول طعام السحور أو للنوم، هذا فضلاً عن الدمار الذي لحق بمساكن عدة لعائلات مدنية ليس لها دور أو شور في ما تتخذه حماس من قرارات وما تخوضه من مغامرات، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن التاريخ والحاضر يقولان أن الاعتداءات الإسرائيلية الممنهجة على المقدسيين والمسجد الأقصى لم ولن تجدي ممعها عمليات حماس التي تخفف الضغط الدولي على إسرائيل وتستر شيءً من عورتها الأخلاقية التي بدت للعالم، فسرعان ما تتراجع قضية القدس والأقصى من البيانات والمحادثات والمفاوضات لتحل قبلها مسألة الهجمات الصاروخية لحركة حماس وتغدو جزءً من نقاط التفاوض، بحيث يكون المقابل لوقفها هو وقف الاعتداءات الإسرائيلية على غزة وليس على القدس والمسجد الأقصى.
الشعوب المهزومة والمأزومة تتعلق بأي أمل ولو كان ملؤه الكذب والتسويف، فقد أنسط العرب لأحمد سعيد وهو يبشرهم بدخول الجيش المصري إلى إسرائيل في الوقت الذي كان فيه جنود الصهاينة يعربدون في سيناء، ثم تجلى الراحل صدام حسين للعرب والمسلمين على صفحة وجه القمر ودغدغ مشاعرهم الجياشة محمد سعيد الصحاف وزير أعلامه بروايات عن "تقطيع جسد الأفعى الأمريكية الممتدة من البصرة إلى بغداد والعلوج الذين سيشوي الله بطونهم في النار"، إلى أن استلم الراية حسن نصر الله الذي لم يملك إلا أن يقول وهو يعاين الأشلاء والدماء والدمار الذي خلفته حربه الموجهة من قبل إيران عام 2006: "لو كنا نعلم أن رد العدو سيكون هكذا لما فعلناها"، ثم أصبح نصر الله الآن من وجهة نظر الغالبية الساحقة من المسلمين السنة عدوهم الأول و"ربيبة الحرس الثوري الإيراني". ثم تولت زمام قيادة توظيف الشعور العام للشارع العربي والإسلامي حركة حماس التي خاضت حربين كانتا وبالاً ودماراً على غزة وأهلها الذين لم يشاورهم ولم يستفتهم أحد حول ما يدور ويقع بحقهم، ومجاهدوا المخلوطة والبوشار من العرب والمسلمين يتسمرون خلف شاشات التلفاز ويطالبون حماس بالمزيد وكأن من يسقطون ضحايا وجرحى بعيداً عنهم ثمناً بخساً لشعور هؤلاء المنتشين بالنصر والقوة.
نجح المقدسيون والنشطاء السياسيون والحقوقيون والإعلاميون المخلصون من الفلسطينيين والعرب بحضارتهم وتحضرهم وحكمتهم بما فشلت به السلطة الفلسطينية والأنظمة العربية والإسلامية ومن قبلها ومن بعدها حركة حماس التي لم تنجز شيءً على الأرض في قطاع غزة ولم تحدث تغييراً حقيقياً في معادلة الصراع، فواظبت على البحث عن نصر في خبر عاجل لتأخير نتيجة الرفض الشعبي لها ومصيرها المحتوم الآجل.