الطَّرائق القرائيّة من الأُحاديّةِ إلى التَّعدديةِ

في البدايةِ، إنَّ النَّصَّ الأدبيَّ يتسمُ بأنّهُ منفتحٌ على التَّأويلِ، والأدبَ الحديثَ تحديداً يستدعي أشكالاً متعددةً من المقارباتِ والتَّحليلاتِ، إضافةً إلى ذلك، أنَّ النَّقدَ الحديثَ يتطلّبُ قارئاً قادراً على متابعةِ الإنجازاتِ النَّقديّةِ الحديثةِ في العالمِ ومواكبةِ ما يجري.

ونشيرُ أنَّ الصِّراعَ بينَ المناهجِ النَّقديةِ قائمٌ على استئثارِ كلٍّ منها بالنَّصِّ الأدبيّ والتَّفردِ في تحليلهِ وتعليلهِ كالمنهجِ البنيويّ والألسني مثلاً، ولقد تعددتْ دراساتُ النُّقادِ والباحثينَ واجتهاداتهم في تناولِ النُّصوصِ الأدبيّةِ الإبداعيّةِ وتنوّعتْ آراؤهم، وإذا تتبعنا تأريخيةَ القراءةِ النَّقديةِ، وما اعتراها من تغيّرٍ وتطوّرٍ، فإننا نجدُ تداخلاً وترابطاً، مُفضياً إلى ما صارَ يعرفُ بالنّقدِ التَّكامليّ.

ومن المفيدِ القول هنا، بأنَّ المنهجَ هو نتاجٌ ثقافيّ ومعرفيّ، والمنهج النَّقدي الأدبي بوصفهِ طريقةً وأداةً معرفيةً بإمكانهِ تحديدَ مسارِ الباحثِ والبحثِ، في قراءةِ النَّصِّ الأدبيّ، حيثُ بإمكاننا توزيع المناهج على قسمينِ: 

- منهج سياقي، وهو يدرسُ النَّص الأدبي من خارجه، كالتّاريخي، والاجتماعي، والنفسي.

- منهج نصّاني، يدرسُ بنية النَّص الأدبي من داخله، كالأسلوبيّةِ، والبنيويّةِ، والسّيميائيّةِ.

على ضوءِ ذلك، تنهضُ المناهجُ الأدبيّةُ النَّقديّةُ على ثنائيّةِ الهدمِ والبناء، لتشكّل علاقةً تكامليّةً في قراءةِ النَّصِّ الأدبيّ.

بالملاحظةِ، فإنّ مساوئَ المنهجِ الواحدِ أنّهُ يتركُ ثغراتٍ نقديةً في معالجةِ وقراءةِ التَّجربةِ الأدبيّةِ، ويقومُ على تجزئةِ النّصِّ على حسابِ كلّيته؛ بحيث يضعُ فرضيةً ونظريةً مسبقةً ثابتة، ويقوم من خلالها بالبحثِ عمّا يدعمها في النَّصِّ، على العكسِ تماماً من النَّقدِ التّكاملي، الذي يطيحُ بفردانيةِ المناهجِ الحديثةِ وأحاديتها، ساحباً البساطَ من تحتها باتجاهِ إطلاقِ العنانِ لحرّيةِ النَّقدِ التَّعددي(1).

ومع تقدّمِ الوعي النَّقدي، واهتمامِ النَّقدِ الحديثِ بموقعِ القارئِ، فإنَّ الفكرةَ القائلة: بأنَّ النّصَّ يفرضُ منهجَ قراءتهِ على القارئِ، ولكلِّ نصٍّ منهجهُ، فكرةٌ لا تستقيم مع طبيعةِ النَّصِّ الأدبيِّ، ولا تصمدُ أمامَ اختباراتِ النَّقدِ الحديثِ.

إذ إنَّ قارئَ النَّقدِ لا يعدمُ كثيراً في قراءتهِ للنُّصوصِ الأدبيّةِ شعريّةً كانت أو نثريّةً تداخلَ المناهجِ، تماماً كما يحصلُ في مقاربةِ وتحليلِ النُّصوصِ الأدبيّةِ عندَ كثيرٍ من النُّقادِ بوعي أو بغيرِ وعي، بمعنى، وبتعبيرٍ آخر، أنّهُ لا يوجدُ صفاءٌ مطلقٌ في القراءةِ النَّقديّةِ، وإذا لم ندرك هذه الحقيقةَ سنسيرُ على رؤوسنا من حيثُ لا نشعر ولا ندري.

ونظراً لتقاربِ المناهجِ وتداخلها وتماهيها، فإنَّ من الصُّعوبةِ بمكانٍ أحياناً إرجاع النّصِّ الأدبيِّ وتصنيفه إلى منهجٍ أو مذهبٍ أدبي بعينه خالص في ظلِّ التّقاطعاتِ والتَّشابكات فيما بينها؛ فثمّة تداخلٌ وتقاربٌ ملحوظٌ بينَ مختلفِ المناهجِ؛ إذ إنّ بعضَ النُّصوصِ يحتارُ النَّاقدُ في تحديدِ منهجٍ أدبي؛ لكونها تتقارب بطريقةٍ لافتةٍ مع أكثرِ من منهج.

باختصارٍ، إنَّ المنهجَ النَّقدي الواحد، لا يقدّمُ تحليلاً شاملاً للنّصِّ الأدبيّ، والذي لا يترك لغيره من المناهجِ النَّقديةِ مزيداً لمستزيد، والنّقد التَّكاملي في اعتقادي يتناسبُ مع طبيعيةِ النَّصِّ الأدبي، ويجعل النّاقدَ واسعَ الأفق، مُستفيداً من معارفهِ وثقافتهِ واطلاعهِ، ويسمحُ للنّاقدِ أيضاً بأن يعبّرَ عن حرّيتهِ التي تتوازى مع حرّيةِ النّصِّ الأدبيّ، وإنّ ما يميّزُ النّقد التكاملي، أنّه يتناولُ العملَ الأدبي من جميعِ زواياه؛ من حيثُ قائله، وتأثرات البيئة، والقيمة الفنية(2). 

والنّاقد التّكاملي أكثرُ حرّيةً وحركةً وحيويةً من ناقدٍ منهجي واحدي، لذا، يتطلّبُ من النّاقدِ التّكاملي بأن يكونَ موسوعياً في تفسيرِ التّجربةِ والظاهرةِ الأدبيّةِ، ووفقاً لتعدديةِ الرّؤيةِ النقديةِ، ستغدو الدّلالةُ الأدبيّةُ أكثرَ انفتاحاً واتساعاً.

أخيراً، إنّ المناهجَ الأدبيةَ تأخذُ بعضها برقاب بعض؛ أي أنّها متصلةٌ بعضها ببعض، تؤدّي دوراً واحداً متكاملاً، والتّعدديةَ والانفتاحَ على المناهجِ الأدبيّةِ لا يعني الفوضى كما يتصوّر، ولا يمنع أيضاً بأن يكونَ للنّاقدِ موقفهُ ورأيهُ الخاص، كما إنّ إضاءةَ النَّصِّ الأدبي، وفهم طبيعته، وتحليله، وكشف الغطاء عن جماليته في رأيي لا يتمّ إلّا من خلالِ الاستفادةِ من المناهجِ النّقديةِ كافةً، وعلى الباحثِ والنّاقدِ الأدبيِّ في المقابلِ أن يخرجَ من دئراةِ المنهجِ النَّقديِّ الواحد، مُتبنياً مناهجَ متعددةً في قراءةِ النَّصِّ الأدبيّ. 

الإحالات

(1) انظر، في النّقد التّكاملي: محمد علاء الدّين، ط1 ـ 2015م، دار نون للنشر، الإمارات، ص 34.

(2) انظر، النقد الأدبي، أصوله ومناهجه: سيد قطب، ط8 ـ 2003م، دار الشروق، عمّان، ص 255 ـ 256.

أضف تعليقك
أحمد البزور، مواليد الزّرقاء، سنة ١٩٩٠، حاصلٌ على درجة الدّكتوراه في الأدب والنّقد الحديث من الجامعة الأردنيّة، وعضو في الاتّحاد الدّولي للغة العربيّة، ولديه العديد من الأبحاث المنشورة في مجّلات محليّة وعربيّة محكّمة، وكتب عددًا من المقالات والمراجعات عن الأدب والنّقد في الصّحف والمواقع الإلكترونيّة المتخصصة.