الصحة النفسية للعمال.. متطلب غائب عن سوق العمل الأردني

الرابط المختصر

لا يعتمد تطوير أعمال المنشآت وأماكن العمل على الخطط الاستراتيجية وحدها، وإنما يستوجب توفير الراحة لموظفيها وللعمال على اختلاف نوعهم الاجتماعي، حتى يتسنى لهم تنفيذ هذه الخطط وتطوير النشاط وزيادة الإنتاج.

فأي عامل أو عاملة يحتاج إلى الراحة النفسية حتى يستطيع إنجاز ما يطلب منه.

منظمة الصحة العالمية وفي إحصائية رسمية على موقعها الإلكتروني قدرت خسائر العالم بـ12 مليار يوم عمل سنوياً بسبب القلق والاكتئاب اللذين يصيبان العمال، ما يكبد العالم مليارات الدولارات والإنجازات المهدورة.

وبالتزامن مع اليوم العالمي للصحة النفسية، لا يمكن فصل الصحة النفسية عن العمل اللائق، خصوصا وأن توفير ظروف العمل اللائق تساعد على تحسين نفسية العامل أو العاملة يما يضمن التقدم والتطور وزيادة الإنتاج.

ولضغط العمل وأزماته دون اعتماد معايير لائقة وظروف مريحة "ضحايا" يقعون فريسة الاضطرابات النفسية الدائمة أو المؤقتة.

ومن هؤلاء صفاء ابنة ال(25 عاماً)، التي تستغرب التغير الجذري الذي طرأ عليها منذ سنوات؛ فقد كانت تنجز عملها بسهولة وبوقت قصير، إلى أن تأكدت من إصابتها باضطراب ثنائي القطب قبل ثلاث سنوات.

رغم تناوب موجات الهوس والاكتئاب، قررت صفاء الاستمرار في عملها بشركة لصناعة المحتوى الإعلامي، ثم في منظمة حقوقية.

غير أنها لم تستمر في أي عمل منهما أكثر من سنة واحدة، لعدم مواءمة كلا العملين مع اضطرابها النفسيّ.

فضّلت بعدها العمل بصناعة المحتوى الصحفي والإعلامي، لكن بنظام القطعة بصفة "متعاونة" مع عدة منصات تنشر أعمالها، ورغم ذلك لم يتركها الألم النفسي وقادها اليوم إلى انخفاض قدرتها وحجم إنتاجها بشكل كبير، فما كان يتطلب من عملها يوماً واحداً بات يحتاج 3 أسابيع لإنجازه.

كل ذلك كلّف صفاء تراكم عمل 6 أشهر وجعلت المشرفين عليها عن بعد يتساءلون: "لو جاءك اكتئاب هل تضطرين إلى أن توقفي الشغل؟".

وهي تستغرب وتعبر عن امتعاضها من أسلوب التعامل الذي ترى أنه لا يليق مع مرضى الاضطرابات النفسية، الذين قد يفاقم هذا الأسلوب وضعهم ليوصلهم لاختيار محاولة الانتحار وهو ما حدث معها بالفعل، إلّا أنها فشلت في ذلك عدة مرات؛ "لست أعرف لم ما أزال على قيد الحية للآن؟".

ووفقاً لحديثها، يتعامل معها مشرفوها بأنّه ليس من حقك أن تصاب بشيء أو أن تتحدث عن إصابتك ومرضك أو أن تعتذر عن عمل فالعمل والمديرون يملكون قدرتك ولهم الصلاحية بالتحكم فيها كما يريدون.

وعن أسباب عدم علاجها، توضح أنها تعالجت في فترة من الفترات، ثم توقفت بسبب تأثيرات الأدوية، وعندما أرادت العودة للعلاج عن طريق معالج نفسي مختص لم تستطع بسبب التكاليف المرتفعة جداً التي لا تستطيع هي وذووها تحملها.

تقول صفاء: "وكأن العلاج النفسي حق للناس الذين معهم فلوس كثير فقط.

أمّا "رونق" التي تعمل في شركة لخدمات الأبحاث، فتأسف على وضعها الذي أدى إلى انخفاض الإنجاز والإنتاجية يوماً تلو الآخر.

رغم أسفها على انخفاض إنتاجيتها وإنجازها للعمل، إلّا أنّها تُرجعه إلى بيئة العمل غير المريحة نفسياً؛ إذ تعمل نحو 9 ساعات يومياً دون الحصول على استراحة، فضلاً عن ضيق مكتبها وعدم اتساع الشركة للكادر كله، ورغم ذلك لا تستطيع تنفيذ عملها وفق صيغة العمل المرن أو "عن بعد".

وتستذكر رونق، خلال حديثها إلى "المرصد العمالي الأردني"، بدايات عملها في الشركة حين كانت تنجز كثيراً وبفاعلية واضحة بغية إثبات نفسها وتوقيع عقد تثبيتها، في حين أنّها اليوم تنجز ببطء وبدون شغف بالاستمرار.

وتقارن مكان عملها بمكان عمل شقيقتها الواسع الذي يحتوي على أماكن مخصصة للتدخين والاستراحات براتب مجزٍ خلافا لطبيعة عملها هي.

وينتقد الطبيب النفسي عبد الله أبو العدس خلو بيئات العمل في الأردن من الفحوصات النفسية الدورية للعاملين، أو افتقادها إلى إجراءات من شأنها تخفيف الضغط النفسي على العاملين كالرحلات الترفيهية والإجازات الكافية، فضلاً عن عدم اهتمام أصحاب العمل باحتمال إصابة العاملين والعاملات بالاضطرابات النفسية.

ويقول لـ"المرصد العمالي الأردني" إن حالات الاضطرابات النفسية المشخصة في الأردن تصل إلى نحو 25% من إجمالي عدد السكان في حين أنّ نحو 30% من الحالات المصابة باضطرابات نفسية مشخصة في العالم سببها بيئة عمل غير لائق أو غير مهيأة نفسياً لراحة العامل.

 إذ تخلو من الفحوصات الدورية والتأكد من أهلية العامل دوريا لمعرفة مدى أهليته للوظيفة وقدرته على إدارة شؤون العمل لضمان عدم انعكاسها سلباً على إنتاجه.

ويرى أبوالعدس أنّ عدم تهيئة بيئة العمل نفسياً تدقع العامل إلى تعاطي مؤثرات عقلية ومنبهات على مدى ساعات العمل لضمان إنهاء المطلوب منه، ما ينتج عنه في النهاية اضطرابات الطعام والنوم.

كما يستغرب من نظرة أصحاب العمل أو المديرين إلى المصابين بالاضطرابات النفسية على أنهم غير قادرين على الإنتاج والعمل، إلّا أنّ الحقيقة أنهم غالباً ما يكونون قادرين على ذلك شريطة وجود مراقبة طبية لتجنب زيادة الاضطراب.

المرشدة النفسية ميسون ملحم تقول إنّ العلاقة طردية بين الصحة النفسية الجيدة وزيادة إنتاجية العمل، لأنّ توفير بيئة نفسية جيدة في العمل يضمن استمراره وزيادة عطائه، "فالعاملون والعاملات سيجدون ما يحفزهم أو يشجعهم على العمل والاستمرار فيه".

وتبين ملحم لـ"المرصد العمالي الأردني" أنّ أكثر من 70 بالمئة من الحالات التي تعاملت معها يعانون ضغوطاً نفسية سببها بيئة العمل وسوء المعاملة، وغالباً ما تكون بسوء تعامل أصحاب العمل حيث لا ترقى المعاملة إلى أدنى متطلبات العمل اللائق.

وتؤكد أنّ حافزية العمل لا يمكن أن تقوم بدون الراحة النفسية للعامل، خصوصا وأنّ العمل لا يقترن بعدد ساعات معين دائماً، ولا يُستغرب رؤية زيادة إنتاجية بعض الشركات والمنشآت رغم أنّ عدد ساعات عمالها قليل.

وتذكر ملحم قصة إحدى الشركات العالمية التي قررت إعطاء نصف ساعة نوم للموظفين داخل العمل، والنتيجة كانت زيادة إنتاجية الشركة وأرباحها، لأنّ العاملين أخذوا قسطاً من الراحة لا يأخذه غيرهم، خصوصا وأنّ ساعات الاستراحة غالباً ما يتخللها الحديث عن العمل بين الزملاء.

وتؤكد أنّ العامل في حال توافر بيئة عمل مريحة نفسياً سيرى المنشأة أسرة حاضنة له وتضمن استقراره وعدم رغبته في تركها وسيسعى لتطويرها.

إلّا أنّ ما تشهده القطاعات الاقتصادية في المملكة، وفق ملحم، هو خلاف ذلك؛ فالعامل غير مقدر عند الإنجاز ويُنظر إلى انّ واجبه أن يعمل في حين أنّه يتعرض للتوبيخ او العقاب عند الخطأ وإن كان بسيطاً.

وتلاحظ ملحم أنّ المحفزات النفسية في المنشآت الأردنية "غير متوافرة"؛ فما يزال العاملون والعاملات يفتقدون لفترات الاستراحة والنشاطات الترويحية خارج مكان العمل، وأصحاب العمل يرون أنّ الرحلات الترفيهية للفريق تستدعي دفع مصاريف أكثر دون النظر إلى مردودها الإيجابي وهو زيادة الإنتاج، فضلأً عن الأجور المنخفضة.

وتوصي بالاقتداء ببعض المنظمات الدولية العاملة في الأردنّ، التي تخصص ميزانيات لتحسين نفسية العاملين والعاملات بغية رفع الإنتاجية والعمل والإنجاز من خلال تنظيم رحلات ترفيهية وجلسات سمر لمدة ساعات قليلة تخفف عنهم ضغط العمل.

كذلك، فإنّ الإجازات والحوافز المالية تسهم في رفع الإنتاجية، وفق ملحم، التي تشير إلى أنّ حسن التعامل والالتزام بمعايير العمل اللائق في حدها الأدنى قد يوفران للعامل بيئة مناسبة، إلّا أنّ الأردن وللأسف يفتقر أصلاً للأجور الجيدة وحسن تعامل الكثيرين من أصحاب العمل والمديرين.

وتذكر ملحم إحدى القصص التي مرّت بها، بأنّ إحدى الحالات تركت العمل في منظمة لسوء المعاملة والتعنيف اللفظي وعدم قبول أي عامل أو عاملة في حالة الزواج وعدم تجديد عقد المرأة الحامل، واستمرار تجديد العقود كل ثلاثة أشهر بما لا يوجِد استقراراً في العمل.

كذلك فإنّ المنظمة ذاتها شهدت فجوات واسعة في الأجور بين المديرين والموظفين بشكل ملحوظ؛ "فالمديرون كانوا يحصلون على أكثر من 1500 دينار راتبا للشهر الواحد مقابل أجور لا تُجاوز 350 دينارا للعاملين والعاملات.

منظمة الصحة العالمية كانت نشرت خلال أيلول الماضي مقالة حول ضرورة مراعاة الصحة النفسية للعمل، وجاء فيها أنّ الصحة النفسية معرضة للخطر في مكان العمل لعوامل عدة، أبرزها: نقص استخدام المهارات أو عدم امتلاك المهارات الكافية للعمل، أعباء العمل المفرطة أو وتيرته، ونقص الموظفين.

ومن هذه العوامل أيضاً: العمل لساعات طويلة أو في أوقات غير معتادة أو غير مرنة، وعدم التحكم في تصميم الوظيفة وعبء العمل، إضافة إلى ظروفه المادية غير الآمنة أو المتردية.

كذلك، فإنّ الصحة النفسية معرضة للتراجع بسبب العنف والمضايقة والتنمر والتمييز والإقصاء وعدم وضوح الدور الوظيفي، وعدم كفاية الأجور وتضارب المتطلبات بين العمل والمنزل.

ووفقاً للمنظمة الدولية فإنّه على الرغم من أن المخاطر النفسية والاجتماعية قد تكون موجودة في جميع القطاعات، فإن بعض العاملين يتعرضون لها أكثر من غيرهم، بسبب نوع عملهم أو مكانه وأسلوبه. وغالبا ما يعمل العاملون في مجال الصحة أو العمل الإنساني أو الطوارئ في وظائف تنطوي على خطر تعريضهم بشكل أكبر لأحداث سلبية يمكن أن تؤثر سلبا على الصحة النفسية.

ويمكن أن يشكل العمل بيئةً تُفاقم القضايا الأوسع نطاقا التي تؤثر سلباً على الصحة النفسية، بما في ذلك التمييز وعدم المساواة على أساس عوامل مثل العرق أو الجنس أو الهوية الجنسانية أو الإعاقة أو الأصل الاجتماعي أو وضع المهاجر أو الدين أو العمر.

ويرجح أن يُستبعد الأشخاص الذين يعانون من اعتلالات الصحة النفسية الشديدة من فرص العمل، وعندما يعملون بالفعل، فيرجح أن يتعرضوا لعدم المساواة في بيئة العمل. 

وتشكل البطالة خطراً كذلك على الصحة النفسية. وقد باتت البطالة وانعدام الأمان الوظيفي والمالي وفقدان الوظائف أخيرا من عوامل الخطر المرتبطة بمحاولات الانتحار.