صنع الأسرى الفلسطينيون الستة، الذين تمكّنوا من الفرار من سجن جلبوع الإسرائيلي، في عملية بطولية، وإن أعاد الاحتلال اعتقال أربعة منهم، تاريخاً فلسطينياً سيبقى في ذاكرة شعبهم طويلاً. لكن النظرة السياسية التحليلية لا بد أن تتعامل مع القضية من منطلق الربح والخسارة. وفي ما يأتي محاولة لذلك:
الرابحون: أهم الرابحين هم باقي الأسرى، الذين أشعلت عملية الفرار في آذانهم وعقولهم الأمل بالحرية، بعد أن وصل بهم وبالشعب الفلسطيني اليأس إلى مراحل متدنية. روح المقاومة: يخطئ من يعتقد أن المقاومة محصورة في العمل العسكري، فعملية الفرار توضح كيف يمكن أشخاصاً وضعوا لأنفسهم هدفاً صعباً جداً، ثم قاموا، بأدوات بسيطة وبروح الابتكار والتخطيط والتنفيذ، بعملية هروب من أكثر السجون الإسرائيلية تحصناً.
يمكن أن تطبق آلية الابتكار والتخطيط والتنفيذ نفسها على مجموعة من الأفكار والمشاريع المقاومة للاحتلال، التي ستزيد من فرض تكلفة باهظة للاستمرار في قمع الشعب الفلسطيني. حركة فتح: تقول وسائل الإعلام إن القائد في كتائب شهداء الأقصى التابعة لحركة فتح، زكريا الزبيدي، انتقل إلى الغرفة التي جرى من خلالها الهروب يوماً واحداً قبل العملية. ما هو غير معروف، دوره قبل ذلك، والدور الذي لعبه في التخطيط لما بعد الخروج، لكن وجود ابن حركة فتح مع رفاق من حركة الجهاد الإسلامي، وكلهم من مدينة جنين المقاومة، لعب دوراً كبيراً في رفع شعبية حركة فتح، وأجبر قادتها، ومنهم الرئيس أبو مازن ورئيس الوزراء محمد اشتية واللجنة المركزية والمجلس الثوري والنشطاء في جنين، على الانضمام الى الدعم الشعبي منقطع النظير للأسرى الابطال، وساعد ذلك على تجميد الانحدار المدوّي للحركة. وبذلك قدّم الأبطال جائزة كبيرة لـ"فتح" بوجود الزبيدي معهم، وعزّز التعاون التاريخي بين الحركتين، ما سيكون له أثر كبير في عمليات المصالحة بين فتح وحركة حماس. ورفعت العملية لستة مناضلين من جنين معنويات المحافظة ومخيمها، وهي التي لعبت دوراً قيادياً أخيراً في مجال المقاومة العسكرية، وقد رفع إعلان مخيم جنين، والمقاتلين في المحافظة، استعدادهم لاحتضان الأسرى الأبطال والدفاع عنهم من معنويات جنين الصمود.
أما الخاسرون، فأبرزهم إسرائيل ونظريتها الأمنية التي كان الكل يعتبرها غير قابلة للقهر. حطم الأسرى الستة، بذكائهم وإبداعهم وجرأتهم، النظرية الأمنية الإسرائيلية، وأضاعوا عقوداً من بناء حائط الردع الذي دُمِّر. ومن الخاسرين الرئيس الأميركي، بايدن، ورئيس الحكومة الإسرائيلية، نفتالي بينت، ذلك أنه على الرغم من وجود فرق لفظي بينهما بشأن الاستيطان والقنصلية في القدس وحلّ الدولتين، إلا أن كل المؤشرات والتصريحات أفادت بأن الطرفين اتفقا على تأجيل أي تحرّك سياسي، والعمل على تحسين ظروف الحياة، وخصوصاً في المجال الاقتصادي. لقد أثبتت عملية جلبوع، التي جاءت بعد فشل المحاولة المصرية لتحريك عملية تبادل الأسرى مع حركة حماس، أن الابتعاد عن التحرّك السياسي يزيد من الشعور باليأس، ويوفر بيئة مشجعة للمقاومة، بعيداً عن أوهام الحلول السياسية التي تأتي من خلال المفاوضات وحدها. وعلى الرغم من أن حركة فتح صُنِّفَت رابحة، وعلى الرغم من أن القيادة الفلسطينية، بما فيها الرئاسة، دعمت الأسرى دون أي تردّد، إلا أن العملية البطولية زادت من قوة المقاومين داخل القيادة الفلسطينية على حساب المقرّبين من الرئيس الذين أوصوا بإلغاء الانتخابات، وأمروا بقمع المتظاهرين، وكانوا يحضّرون لاستمرار الهدوء الفلسطيني تجاوباً مع المطالب الأميركية والإسرائيلية.
لقد حقق ستة شبان فلسطينيين ما لم يحققه قادة وسياسيون منذ عقود، ومن الضروري الاستفادة من هذه التجربة الشجاعة، ليس بالضرورة بترتيب هروب آخر، ولكن الأهم ضرورة الخروج من الفكر السلبي واليأس، والقناعة بحكمة الشعوب، وأهمية إعطاء أولوية لكل المناضلين في السجن وخارجه في جنين وفي القدس وفي غزة... هذا ما يمكن الاستفادة من عملية جلبوع البطولية.
عن العربي الجديد