"الجلوة العشائرية".. الرحيل إلى "الصفر"

"حياتي توقفت منذ خمس سنوات". بهذه الكلمات عبّرت السيدة (ن.أ) عن حالها، بعد إجبارها وعائلتها على الجلاء (الرحيل قسرًا) من بلدتها شرقي القدس المحتلة، بسبب جريمةٍ ارتكبها شقيق زوجها.

جلاء العائلة جاء بناءً على ما نصَّ عليه اتفاق "صك العطوة العشائرية" التي انعقدت في آب/ أغسطس من العام 2018م، وتضمّن ترحيل حوالي 40 فردًا من العائلة، ومن بينهم إخوة المتهم بالقتل، وعائلاتهم، وأمه وأبيه، لمدة 10 سنوات، مع ترحيل المتهم وأحد أخوته مدى الحياة.

قضت العائلة خمس سنوات من هذه العقوبة الجماعية في ظروفٍ ماديةٍ واجتماعيةٍ ونفسيةٍ صعبة؛ حيث دفعت مليون شيقل لعائلة المجني عليه، وتركت مشاغلها، ومصادر رزقها، ومنازلها (عمارتان سكنيتان)، وباعت ذهب ومصاغ الأم وزوجات الأبناء؛ لسداد جزء من الغرامات المتراكمة عليهم.

أثر لا يزول

ذلك كله لا يساوي في نظر (ن.أ) الشعور بالنبذ في مجتمعٍ جديد، يفرض عقوبته الجماعية على عائلةٍ بأكملها ارتكب أحد أفرادها جريمة بمفرده.

تقول: "ذُقتُ المرُّ وما زلت. العائلة لم تتمكن من إزالة آثار الدم الذي سفكه أحد أفرادها، وواجهت العديد من المشكلات في التحاق أطفالها بالمدارس؛ لأن فترة الإجلاء كانت في نصف الفصل الدراسي".

وتضيف السيدة بحسرة: "واجهت بناتي صعوبات بالغة في الاندماج بالمجتمع الجديد؛ فلمّا حاولن بناء صداقات جديدة، بدأت تعليمات أهالي صديقاتهن بضرورة بالابتعاد عنهن، والسبب: "هؤلاء مدمِيِّين"، بل إن بعض الطالبات تنمّرن عليهن بتلك الصفة"، مشيرةً إلى أن الحال نفسه عايشته بنات أسلافها أيضًا.

إلى جانب ذلك، تواجه العائلة مصيرًا مجهولًا مدى الحياة، لأن الترحيل لا يعني الأمان من أخذ الثأر في أية لحظة، وهو ما تخشاه (ن.أ) التي تدرك أن العقاب الجماعي لن يقتصر على الترحيل، وإنما بالتهديد بقتل أبنائها، وزوجها، "خاصةً في ظل حالة الفلتان الأمني، وغياب سيطرة السلطة على المناطق المسماة "ج" حيث كانت العائلة تقطن، قبل أن ترحل إلى منطقةٍ تتبع لنفس التصنيف" تردف.

(ن.أ) واجهت تهديدًا بالقتل شخصيًا، عندما ذهبت ذات مرةٍ لمنزلها السابق من أجل جلب بعض الأغراض، فعادوت ولم يسمح لها بحمل شيء.

(ن.أ) واجهت تهديدًا بالقتل شخصيًا، عندما ذهبت مع حماتها ذات مرةٍ لمنزلها السابق؛ من أجل جلب بعض الأغراض بعد أن رُحّلوا، فعادوا ولم يسمح لهم بحمل شيء، "فقد هاجمتنا عائلة المجني عليه بالأسلحة البيضاء، وكادت أن تحصل جريمةٌ أخرى لولا تدخّل أهالي البلدة" تتابع.

عقوبات جماعية مخالفة للقانون

خلافًا للمادة (15) من القانون الأساسي الفلسطيني، التي تمنع العقوبات الجماعية، وتنص على أن "العقوبة شخصية"، وبرغم أن القاعدة القانونية تقول "لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص قانوني، ولا توقع عقوبة إلا بحكم قضائي، ولا عقاب إلا على الأفعال اللاحقة لنفاذ القانون"، يعمل رجال العشائر على إجلاء عائلات المتهمين بجرائم القتل، أو المُدانين بذلك من أماكن سكناهم كعقوبة جماعية تُفرض على ذويهم بحجة "إبعاد البنزين عن النار".

خلافًا للمادة (15) من القانون الأساسي الفلسطيني عمل رجال العشائر على إجلاء عائلات المتهمين بجرائم القتل، أو المُدانين بذلك من أماكن سكناهم كعقوبة جماعية.

يشير نافذ الجعبري، عضو اللجنة العشائرية العُليا (وهي لجنة تتبع لوزارة الداخلية الفلسطينية) إلى أن اللجنة ضد ظاهرة الجلوة، "بل تحاول منعها بشتى الطرق، إلا في حالة صلة القرابة للقاتل كأخيه وأبيه وابنه"، معللًا ذلك بقوله: "لا يُعقل أن يبقى أحد أقارب القاتل في سكن قريب من بيت المجني عليه. الجلوة هنا مهمّة من أجل حقن الدماء والسلم الأهلي، ولا يمكن ذلك إلا بالإجلاء".

يضيف عبد الوهاب غيث عميد رجال الإصلاح في محافظة الخليل، على حديث الجعبري قوله: "من غير المعقول أن يسكن أحد إخوة القاتل أو ابنه أو أبيه مقابل عائلة المجني عليه"، مستشهدًا بقول الرسول محمد صلى الله عليه وسلم حين جاءه "حبشة" بعد دخول الإسلام (وكان قد قتل عمه حمزة): "أما تستطيع أن تُغيِّبَ عنّي وجهك؟".

وعلى عكس مبررات العشائر بالتجاور والقرب المكاني الذي يبيح الجلوة، فإن منازل عائلة (ن.أ) تقع في أبعد نقطةٍ بالطرف الجنوبي من البلدة بالنسبة لعائلة المجني عليه، أما الثانية ففي أقصى الشمال.

ووفقًا لمنصور السعدي، مساعد محافظ جنين لشؤون السلم الأهلي، فإن ذوي القاتل، وفي حال أرادوا الرحيل طوعًا، خوفًا من عائلة المجني عليه، فلحق بهم نساؤهم وأطفالهم وعائلاتهم، "فهذا يخرج من مسمى (الترحيل) ويعدُّ تغيير سكن وابتعاد عن منطقة خطرة بالنسبة لهم" يقول.

يؤكد السعدي، أن محافظته لا تصادق على أي صك عطوة فيه إجلاء لعائلات القاتل، وأن دورها يقوم على التحاور مع المتخاصمين.

ويؤكد السعدي، أن محافظته لا تصادق على أي صك عطوة فيه إجلاء لعائلات القاتل، وأن دورها يقوم على التحاور مع المتخاصمين؛ لحل التنازع فيما بينهم.

ويضيف: "محافظة جنين صادقت على وثيقة شرف رسمية، تُجرّم إجلاء النساء والأطفال، في حال جرائم قتل يرتكبها أفراد".

ووقّع رجال ووجوه العشائر في الخليل، وبيت لحم، والقدس أيضًا على وثائق مشابهة، لكن على أرض الواقع لم تكن هذه المواثيق مجدية، أو لم تُطبق على جميع العائلات.

إن عدم مصادقة المحافظة على صكّ عطوة يقضي بإجلاء عائلة القاتل، لا يقدم ولا يؤخر، ولا يمنع الجلوة في كثير من المناطق، "فالكلمة الفصل لوجوه العشائر".

ووفقًا للمعطيات التي حصلت عليها مُعدّة التحقيق، فإن عدم مصادقة المحافظة على صكّ عطوة يقضي بإجلاء عائلة القاتل، لا يقدم ولا يؤخر، ولا يمنع الجلوة في كثير من المناطق، "فالكلمة الفصل لوجوه العشائر".

وعلى الرغم من تأكيد المتحدثين باسم العشائر ووحدات السلم الأهلي، وجود "مواثيق شرف" تتعلق بعدم ترحيل النساء والأطفال، إلا أن أحدًا لم يزودنا بنسخة منها رغم طلبنا إياها، مما يدل على أنها ليست فقط "حبرًا على ورق"، بل على أن هذه الجهات ليست مهتمة لدرجة عدم الاحتفاظ بأي نسخة من هذه الأوراق، التي لم يوضع لها أي حساب حتى بعد التوقيع عليها.

على سبيل المثال لا الحصر، في العام 2018م طالبت عائلة "قطوش" من بلدة بتير قضاء بيت لحم، بإجلاء 8 عائلات من أقارب أحد المتهمين بالقتل خارج المدينة لقرى ريفها الشرقي، بينما يُرحّل القاتل وعائلته خارج محافظة بيت لحم بأكملها، "وبالفعل تم الترحيل رغم مواثيق منع إجلاء الأطفال والنساء".

ويرتبط الالتزام بمواثيق الشرف الخاصة بعدم إجلاء النساء والأطفال، بموازين القوى لدى الطرفين المتنازعين. وبحسب توضيح الباحث في الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان عمار جاموس، فإن مواثيق الشرف التي وُقِّعَ عليها ما هي إلا حبر على ورق ولا يتم تطبيقها، "وإن تم، فعلى العائلات الضعيفة التي لا نفوذ لها".

صكوك غير نافذة

صكوك العطوات التي يبرمها رجال العشائر، لم تكن فعالة في حفظ منزل السيدة (أ.ع) الذي أحرقته عائلة المجني عليه في إحدى بلدات الخليل؛ لمجرد أن زوجها شقيق الجاني.

تقول: "رغم توقيع وجهاء العشائر على ترحيل الرجال خارج البلدة، والإبقاء على نساء العائلة فيها، أحرقوا البيت. وجدتُ نفسي فجأةً مُجبرةً على الإجلاء، لا سيما وأن زوجي رُحِّلَ إلى يطا، فاضطُررت للحاق به".

(أ.ع) تصف نفسها بـ"المحظوظة" بالنسبة لغيرها؛ فقد لاقت معاملة حسنة من أهالي البلدة الذين استضافوا عائلتها، لكنها عاشت في بيت فارغ على مسافةٍ بعيدة، ويصعب الوصول إليه.

تضيف: "واجهتً مشاكل جمّة في الوصول إلى المراكز الصحية التي أحتاجها طوال السنوات الثلاثة التي قضيتها بعيدة عن بلدتي"، مبينةً أنها، وبرغم امتلاكها شهادة جامعية، إلا أنها لم تستطع التقدم لأية وظيفة تُمكّنها من العمل؛ فمدّة الإجلاء لم تكن محددة والحالة غير مستقرة".

على مدار ثلاث سنوات، كانت (أ.ع) تتمسك بأمل العودة مع عائلتها إلى بلدتها، لكن النور لم يلُح في الطريق إلا بعد مفاوضاتٍ طويلة الأمد مع عائلة المجني عليه، سُمح لها بعدها بالعودة إلى منزلها المحترق لتبدأ ترميمه، وتسكن فيه من جديد.

16 عامًا في الجلوة

في العام 2007م رُحِّلَ نحو 200 مواطنٍ من بلدة حزما شمالي شرق القدس، إثر إقدام ثلاثة مسلحين "معروفي الهوية" على قتل مواطنَيْن (أب وابنه) بسبب خلافٍ قديمٍ على أرض.

وفي هذه القضية، يقول أحد المقرّبين (رفض الكشف عن اسمه): "إن من تمّ إجلاؤهم كانوا خارج "بصمة الدم"، (أي ليس لهم علاقة بالقتل)، وها هم ذا يدخلون في الجلوة الثالثة (كل جلوة ٧ سنوات) حسب العُرف العشائري".

أمضى المُرحّلون من عائلة الجناة 16 عامًا في الجلوة، وما زال أفرادها مشتتون في عدة قرى وبلدات برام الله والقدس، وغالبية الذين تم إجلاؤهم أقارب من الدرجة الثانية، والثالثة، للقتلة.

أمضى المُرحّلون من عائلة الجناة 16 عامًا في الجلوة، وما زال أفرادها مشتتون في عدة قرى وبلدات برام الله والقدس (جبع، وبرقة، وأبو اشخيدم، ودير أبو مشعل، ومخيم قلنديا)، وغالبية الذين تم إجلاؤهم أقارب من الدرجة الثانية، والثالثة، للقتلة.

يضيف قريبهم: "إن ما جرى مع هذه العائلة أشبه بالنكبة، حيث قيل لهم حين تم إجلاؤهم "خذوا بعضًا من متاعكم، لن تطول فترة الجلوة وستعودون قريبًا"، وها هم يدخلون عامهم الـ16 ويسعون للعودة دون جدوى"، مشيرًا إلى أن الإجلاء كان لكل العائلات، بما في ذلك النساء والأطفال، وكان من بينهم سيدة مسنة على فراش الموت، لم تمكث سوى فترة قصيرة حتى توفيت بعيدة قسرًا عن بيتها، "ولم يُسمح حتى بدفنها في بلدتها".

حين لا تنفع الجلوة

ولعل الأخطر من الجلوة بحد ذاتها، مُدتها، سواءً كانت محددة أو غير محددة؛ فقد أشار الباحث في الهيئة المستقلة عمار جاموس إلى أنه عند انتهاء مدة الإجلاء، يعجز حتى "رجال الإصلاح" الذين حكموا بالجلوة عن إرجاع من حكموا بإجلائهم.

كما أن المؤسسة الرسمية تُكرّس هذا الواقع، من خلال دعمها لرجال العشائر، وإجراء "العقوبة الجماعية" من خلال المحافظات والمراسيم الرئاسية الخاصة بهم من جهة، وعبر تقصيرها في فرض سيادة القانون على الأرض من جهة أخرى؛ فعدد من قرارات الترحيل والجلوة، حدثت أمام أعين أجهزة إنفاذ القانون، ومثال ذلك: حادثة ترحيل عائلة من إحدى قرى بيت لحم أمام أعين الأجهزة الأمنية التي لم تحرك ساكنًا.

وتبرير العشائر اللجوء لـ"الجلوة"؛ كحل لحقن الدماء والسلم الأهلي، لم تؤت ثمارها في العديد من الحالات، ومنها مقتل المواطن عمر جابر بعد سنوات من الجلوة، بعيدًا عن مدينة الخليل، وإصابة اثنين آخرَين من أفراد عائلته في آذار ٢٠٢٢م.

وكذلك جريمة قتل أكرم ومحمد شوابكة من مخيم الفوار بالخليل في أيار 2022م، الذين تم إجلاؤهم إلى طولكرم على إثر ثأرٍ قديم.

وسبق جريمة مقتل الأخوين شوابكة، ترحيلٌ قسري لـــ(١٢٠٠) شخص من العائلة نفسها في العام ٢٠٠٠م إلى مدينة "يطا"، إلا أنهم لم يشعروا أنهم بمأمن من العائلة الثانية (في مخيم الفوار)، فاختاروا أن يبتعدوا إلى مدينة طولكرم شمالًا، وخسروا منازلهم وعملهم وكل ما يملكون مرتين.

رغم ذلك، فإن خسارة زوجَتَي المقتولَين كانت الأكبر؛ فأحدهما كان أبًا لخمسة أطفال، والثاني أب لثمانية، اقتلعوا جميعًا من منازلهم وأراضيهم مرتين بحثًا عن الأمان، "لكن العشائر وأجهزة إنفاذ القانون، لم يضمنوا لهم الأمان، ولم يمنعوا قتل أبويهم".

عشرات العائلات المرحّلة

ولا توجد إحصائية رسمية لدى كافة دوائر السلم الأهلي بمحافظات الضفة الغربية لعدد الجلوات التي حدثت في السنوات الأخيرة، في حين لم تُتح محافظتا الخليل وجنين أية أرقام تحصيها، إلا أن معدة التحقيق استطاعت توثيق حدٍ أدنى من الحالات التي تم ترحيل عائلات القاتل فيها في الأعوام ما بين 2018م و2021م.

ففي محافظة الخليل، أفادت بيانات الشرطة الفلسطينية أن عدد جرائم القتل في الأعوام السابقة بلغ 32 جريمة، تم على إثرها ترحيل 7 عائلات، منها من رُحّلوا خارج نطاق القرية أو المدينة وصولًا إلى إجبارهم على الرحيل ما بعد محافظة رام الله.

في محافظة جنين، وثّقت معدة التحقيق حالة ترحيلٍ من 17 جريمة قتل، كانت ببلدة سيلة الحارثية، حيث رُحّلت 10 عائلات بأكملها من البلدة على إثر حالة قتل واحدة.

وفي محافظة جنين، وثّقت معدة التحقيق حالة ترحيلٍ من 17 جريمة قتل، كانت ببلدة سيلة الحارثية، حيث رُحّلت 10 عائلات بأكملها من البلدة على إثر حالة قتل واحدة.

وبلغت عدد جرائم القتل في محافظة بيت لحم 8 حالات، تم ترحيل 7 عائلات من أقارب القتلة في هذه الجرائم.

أما في محافظة رام الله والبيرة، فتم ترحيل حالتين من أصل 18 حالة قتل. وأُجليت عائلة بأكملها في العيزرية شرقي القدس، وشملت أكثر من 30 فردًا، وترحيل عائلة في حالة قتل واحدة ببلدة كفر عقب شمالي القدس، فيما لم تُسجل أية حالة ترحيل في طولكرم.

أطراف الجريمة والمساءلة

من ناحية قانونية، ترى أحلام طرايرة، المديرة التنفيذية للمركز الفلسطيني لاستقلال المحاماة والقضاء "مساواة"، أن الطريق الأمثل المترتب على الأفعال التي تندرج ضمن مسمّى الجريمة هو القضاء النظامي، في ظل إعمالٍ أمين لمبدأ الفصل بين السلطات واستقلال القضاء وحياده ونزاهته، "لأن عدم حيادية القضاء يؤدي إلى غياب ثقة المواطن به، واللجوء لطرق أخرى لحل النزاعات" تقول.

هناك 3 أشخاص لهم علاقة بالجريمة: الفاعل، والمتدخّل، والشريك، وأي شخص خارج حدود ذلك ليس من المفترض مساءلته.

وكي تتسق ما تسمى "شخصية الجريمة" و"شخصية العقوبة" مع مفهوم العدالة، بمعنى أن الفعل الجرمي يقابله عقوبة تعادله، فهناك 3 أشخاص لهم علاقة بالجريمة: الفاعل، والمتدخّل، والشريك، وأي شخص خارج حدود ذلك ليس من المفترض مساءلته.

"لكن القضاء العشائري -تستدرك طرايرة- يتخذ من النَسب معيارًا لتحديد المسؤولين عن جريمة القتل، والأصل أن لا يكون الحل العشائري بديلًا للقانون في دولة تحترم القانون"، مؤكدةً أن ليس من عمل القضاء العشائري مساءلة مرتكبي الجريمة، "فهو يعاني من الفساد والانحياز للطرف الأقوى، وبنيته قائمة على المنظومة الأبوية، وسيطرة السلاح والرجال، والأموال هي التي تحظى بنصرة أكثر من غيرها، وهذا يضعهم دائما في صف الطرف الأقوى" على حد تعبيرها.

طرايرة: أي قضية يحكم فيها القضاء العشائري ضحيتها المستضعفون من النساء والأطفال والمسنين، لأن بنية هذا القضاء تطبق على الضعيف فقط.

وبالتالي، (والحديث لها) فإن أية قضية يحكمون فيها يكون ضحيتها المستضعفون من النساء والأطفال والمسنين، "لأن بنية هذا القضاء تُطبق على الضعيف فقط".

وتتساءل الناشطة الحقوقية: "هل من المنطق أن تُطبّق شبكة الأمان التي تقضيها العشائر من خلال سلخ عائلة بأكملها من بلدها وأهلها إلى مكان آخر؟"، منبهةً إلى أهمة دور الدولة هنا "الذي ينبغي أن يكون أقوى من الفرد ومن العشيرة".

وتضيف: "يقع على عاتق السلطة الرسمية حماية الأشخاص الذين لم يشتركوا بأية جريمة، حتى لو قضى الحل العشائري بالترحيل، وهو الإجراء الذي يجب أن لا يكون مقبولًا في أية دولة تحترم نفسها"، منوهةً إلى "تحالف واضح -ليس بالضرورة مكتوبًا- بين السلطة والعشائر، يظهر في تعاطيها معهم، فهي ليست عاجزة عن منع ما تسمى بـ"فورة الدم"، أو وقف الانتهاكات خلالها من حرق المنازل، والإجلاء، والاعتداءات، ومحاولات القتل".

"لن نمنع شخصًا وافق على الرحيل"

وحول دور الشرطة في منع الجلوة أو ترحيل العائلات، يقول مدير إدارة العلاقات العامة والاعلام في الشرطة الفلسطينية العقيد أبو زنيد أبو زنيد: "في حالات القتل تجري الشرطة التحقيقات والتحرّيات، وتسعى للقبض على المشتبه بهم، وتتواجد عناصرها للحفاظ على الأمن والوضع القائم قبل الجريمة"، مستدركًا: "لكنها غير مسؤولة عما يصدر من العشائر، ولا يمكنها منع ترحيل شخص لم يقدم شكوى بذلك، فعائلات القاتل تقبل بذلك طوعًا أو مجبرة، لكن لا يمكن للشرطة أن تفعل شيئًا لشخص وافق على الرحيل، ولا يمكننا بناء مخفر شرطة أمام كل منزل يعود لعائلة القاتل".

ترحيل في الهدنة

في هذا السياق، يوثق التحقيق حالة السيدة "غ.ع" من بلدة "بيت أُمر" شمالي الخليل، التي تُركت وحدها مع طفليها تجابه ما تسمى "فورة الدم" العام المنصرم؛ لمجرد أن أحد أبنائها ورد اسمه مع متهمين في حادثة قتل، ضمن عدة أسماء أخرى.

وتروي (غ.ع) قصتها قائلة: "عائلة المقتول، ومنذ بدء المشكلة حاولوا إخراجي من منزلي بكافة الطرق، بل حاولوا حرقه أيضًا"، موضحةً أن الشرطة تمركزت أمام منزلها لمدة شهر، ثم انسحبت بعد إعلان هدنة بسبب امتحانات الثانوية العامة.

رغم الهدنة وانتهاء "فورة الدم"، إلا أن منزل (غ.ع) تعرض لإطلاق النار وإلقاء الزجاجات الحارقة، الأمر الذي اضطرها إلى مغادرته مع طفليها حفاظًا على حياتهم، دون أن يُقدّم لها رجال العشائر، أي ضمانات بالعودة.

وعلى الرغم من الهدنة وانتهاء "فورة الدم"، إلا أن عدة شبان من عائلة المجني عليه، عادوا وبدأوا بإطلاق النار وإلقاء الزجاجات الحارقة على منزلها، الأمر الذي اضطرها إلى مغادرته مع طفليها حفاظًا على حياتهم، دون أن يُقدّم لها رجال العشائر، أي ضمانات بالعودة، أو حماية من الاعتداءات.

ورُحّلت (غ.ع) لمدة شهرين عن منزلها وأرضها المجاورة التي كانت تعتاش منها، وفي عز موسم العنب خسرت محصولها ومصدر رزقها.

ومع خسارتها الاقتصادية، تحدثت السيدة عن معاناتها النفسية والاجتماعية، وقالت "الله لا يذوقها لحدا. الواحد لما بيطلع من داره بيطلع من روحه، رحلت شهرين كانت مثل سنين طويلة". فمن جهة كانت تكابد خوفها على مستقبل وحياة أبنائها، ومن جهةٍ أخرى، تتحرق رعبًا على بيتها وأرضها من الحرق والتخريب.

يقول الدكتور عمر رحّال في وصف الجلوة العشائرية: "ستعيش في بيتٍ لا يشبه بيتك، وستُجبر على أن تتأقلم في المكان، وستبدأ رحلة البحث عن تكوين الأصدقاء، وخطوات الاستكشاف لمعرفة الجيران، واكتشاف المكان والطرقات المؤدية للبيت. في الطريق سيشار إليك بالبنان، ولا أحد يدري إذا ما أصبح لك اسمٌ جديد، وقد ينعتك البعض بـالـ (طنيب) أو الـ(دخيل). في المناسبات والأفراح لا تتوقع أن تصلك دعوة، وفي الأتراح فإن الأمر في ذات السياق (أنت غير معتوب)، وفي الأصل أنت غير معروف. أنت هنا (غريب).

الصورة عن قرب تبدو "مرعبة". لا ضحية لـ"الجلوة" كمثل امرأةٍ تركت بيتها على عجل هربًا من "انتقام". لا ضحية كطفلٍ اعتاد أن يلهو في فناء بيته فخرج متشبثًا بثوب أمه تسحبه إلى حيث لا يدري، لا ضحية كشيخٍ أمضى سنين عمره يبني ويعمّر بيتًا يجمع فيه أولاده. يمضي اليوم على عكّازه، يقوده ذنبٌ لم يقترفه على أعين رجال الأمن! رحيلٌ إلى حيث تبدأ الحياة من الصفر، وكأن عمرًا بأكمله لم يمُر.

"الجلوة" انتهاك لمبدأ "شخصية العقوبة"، وتقويضٌ لسيادة القانون، وعبثٌ بهيبة الدولة، و"مرٌّ" يتجرعه الأبرياء في ظل تباطؤ الدولة عن البت بجرائم القتل، وإغفال "الإعلام" لتبعات القضية، بما يترك الفكر العشائري فيما يتعلق بـ"الجلوة" و"فورة الدم" على حاله، "موروثًا" لا تبديل فيه ولا يسقط بالتقادم.

 

*الضفة الغربية/ شبكة نوى- فلسطينيات:

أضف تعليقك