في وقت تراهن فيه الحكومة على ضبط الإنفاق وتسريع تنفيذ المشاريع الكبرى ضمن برنامج التحديث الاقتصادي، يرى خبراء أن موازنة عام 2026 ستكون اختبارا حقيقيا لقدرة الدولة على الموازنة بين متطلبات النمو الاقتصادي والضغوط المالية والاجتماعية المتزايدة.
فبينما تواصل الحكومة جهودها للحد من العجز وتعزيز الإيرادات المحلية، تتزايد المطالب بتحويل الموازنة من مجرد أداة لإدارة الأرقام إلى خطة إنتاجية وتنموية شاملة تعالج التحديات المعيشية وتخلق فرص عمل جديدة.
وأصدر رئيس الوزراء الدكتور جعفر حسان مؤخرا البلاغ رقم (14) لسنة 2025، المتعلق بإعداد مشروع قانون الموازنة العامة ومشروع نظام تشكيلات الوزارات والدوائر والوحدات الحكومية للسنة المالية 2026.
ويأتي هذا الإجراء في إطار التوجه الحكومي نحو تقديم مشروع الموازنة إلى مجلس النواب قبل نهاية الشهر المقبل، في خطوة تهدف إلى إقرارها قبل نهاية العام الحالي للمرة الأولى، بما يسمح ببدء تنفيذ المشاريع الرأسمالية الجديدة منذ مطلع العام المقبل.
ويتوقع أن يتجاوز حجم الموازنة العامة 12 مليار دينار، مع استمرار العجز المالي عند مستويات تقارب ملياري دينار، وسط تطلعات حكومية لزيادة الإيرادات المحلية عبر تحسين التحصيل الضريبي وتوسيع القاعدة الإنتاجية.
عجز مزمن واحتياجات متزايدة للنمو
يرى الخبير الاقتصادي في جامعة اليرموك الدكتور قاسم الحموري أن الموازنة العامة تمثل مرآة توجهات الدولة الاقتصادية، إذ تحدد أولويات الإنفاق والإيرادات، وتكشف مدى قدرة الحكومة على تحقيق التوازن بين التمويل والإنتاج.
ويشير الحموري إلى أن الأردن ما يزال يعاني من عجز مالي مزمن نتيجة استمرار النفقات الجارية في تجاوز الإيرادات، ما يجعل من الصعب تحقيق استدامة مالية حقيقية دون إعادة هيكلة الإنفاق.
ويضيف أن معدلات البطالة المرتفعة التي تجاوزت 21% تستدعي من الحكومة التركيز على النفقات الرأسمالية، وتوجيهها نحو مشاريع إنتاجية قادرة على خلق فرص عمل، لا سيما في القطاعات الزراعية والصناعية والسياحية، معتبرا أن هذا التوجه واجب وطني قبل أن يكون خيارا ماليا.
ويشدد الحموري على ضرورة تعزيز الشفافية والمساءلة في تمويل العجز، مبينا أنه رغم أن العجز المقدر يبلغ نحو ملياري دينار سنويا، إلا أن الحكومة غالبا ما تلجأ إلى اقتراض مبالغ تتجاوز ذلك بكثير.
ويقول: إذا كان التمويل بالاقتراض، فلا بد أن يقتصر على تغطية العجز الفعلي فقط، لافتا إلى أهمية أن يكون المواطن مطلعا على تفاصيل الإنفاق ومصادر التمويل.
موازنة تقليدية واقتصاد يحتاج إلى تجديد
ورغم التوقعات بنمو اقتصادي يتراوح بين 2.9% و3% خلال السنوات المقبلة، يرى الحموري أن إعداد الموازنات في الأردن لا يزال يتم بطريقة تقليدية، دون مراعاة التحديات الاقتصادية الراهنة أو احتياجات سوق العمل.
ويشير إلى استمرار الاعتماد على الضرائب غير المباشرة مثل ضريبة المبيعات والمحروقات والجمارك، بدلا من المضي قدما في إصلاح ضريبي حقيقي يقوم على العدالة وتوسيع القاعدة الإنتاجية.
ويؤكد أن مشاريع البنية التحتية الكبرى، مثل مشروع الناقل الوطني للمياه، تمثل خطوة مهمة لكنها بحاجة إلى ربطها بمشاريع طاقة متجددة وتمويل وطني مستدام، مقترحا إنشاء صندوق سيادي وطني يتيح للمواطنين والمؤسسات المساهمة في تمويل هذه المشاريع.
ويضيف أن نجاح هذه المشاريع بشفافية وبعيدة عن الفساد يمكن أن يفتح الباب أمام مشروعات وطنية أخرى مثل خط سكة حديد داخلي أو إنشاء مطار جديد في شمال المملكة لتسهيل التصدير وتخفيف الضغط عن مطار الملكة علياء الدولي.
ويعرب الحموري عن قلقه من غياب أي زيادات على رواتب الموظفين والعسكريين والمتقاعدين في الموازنة المقبلة، معتبرا أن ذلك سيؤثر سلبا على القدرة الشرائية للمواطنين ويبقي الأسواق في حالة ركود، خاصة في ظل ضعف الطلب المحلي وإغلاق العديد من المحال التجارية.
ويقول تتعامل الحكومة مع الموازنة بعقلية محاسبية ضيقة، معتبرة أن رفع الرواتب يزيد العجز، في حين أن الزيادة المنضبطة قد تنعكس إيجابًا على النمو والإيرادات الضريبية.
وفيما يتعلق بتوسيع مظلة الحماية الاجتماعية وصندوق دعم الطالب، يؤكد الحموري أن الأثر ما يزال محدودا، مشيرًا إلى أن المخصصات لا تصل بالكامل إلى مستحقيها، كما حدث سابقا في ضريبة دعم الجامعات، داعيا إلى وضع آليات رقابية أكثر صرامة لضمان العدالة في توزيع الدعم.
العلاقة بين الحكومة والبرلمان مفتاح الأداء الاقتصادي
من جانبه، يرى وزير المالية الأسبق الدكتور محمد أبو حمور أن طبيعة العلاقة بين الحكومة والنواب سيكون لها أثر مباشر على أداء الاقتصاد الوطني خلال الدورة البرلمانية الحالية.
ويوضح أن الحكومة تمتلك أجندة واضحة للتحديث الاقتصادي والتطوير الإداري، تتضمن إجراءات تنفيذية ومشاريع كبرى تحتاج إلى تمويل وتشريعات داعمة، مما يجعل التنسيق مع البرلمان أمرا حيويا.
ويشير أبو حمور إلى أن بعض القوانين الاقتصادية، مثل قانون الموازنة العامة، تمثل محورا أساسيا في هذه المرحلة، إذ يلزم الدستور الحكومة بتقديمه قبل بداية شهر كانون الأول، ليتاح للنواب الوقت الكافي لدراسته ومناقشته قبل إقراره.
ويؤكد أن حزمة القوانين الاقتصادية الجديدة تمس حياة المواطنين بشكل مباشر سواء المستثمرين أو العاملين وتشمل مجالات التجارة والملكية العقارية وتنظيم تملك الأراضي.
لكنه يحذر من أن أي قانون يؤثر على معيشة المواطنين أو دخولهم سيثير نقاشا واسعا داخل البرلمان، ما يستدعي من الحكومة المرونة والقدرة على شرح أهدافها للرأي العام لتكوين قناعة مجتمعية داعمة.
ويضيف أبو حمور أن الحكومة درست مشاريع القوانين بدقة عبر الجهات المختصة، إلا أن البرلمان يمتلك صلاحية التعديل أو الإضافة أو الحذف، الأمر الذي يتطلب من الحكومة استعدادا للتعامل مع أي تغييرات محتملة.
ويرى أن هذه المرونة ضرورية للحفاظ على الاستقرار التشريعي والاقتصادي، خصوصا في ما يتعلق بمشاريع البنية التحتية والتنمية الاقتصادية المدرجة ضمن الموازنة العامة، داعيا إلى وجود بدائل جاهزة في حال إجراء تعديلات جوهرية.












































