إدمان التعلق

 "هذا فراق بيني وبينك، ليس بالضرورة أن يكون أحد الطرفين سيئا، لكنها نهاية الطريق. خروج بعض الناس من حياتك لا يعني نهايتها، وإنما نهاية الجزء المتعلق منهم فيها. العلاقات كالأغذية المعلبة لها تاريخ صلاحية وكل خطوة بعدها ستكون سامة ومؤذية. فلا تؤجل فراقاً حان أوانه. لا يوجد إنسان ليس له بديل. من يضمنون بقاءك يؤذونك، فكن قادراً على الرحيل".

 هذه المقتطفات من خواطر الكاتب الفلسطيني أدهم شرقاوي، من نوادر الكلمات التي جعلتني أتمنى لو عاد بي الزمن لأغيّر عدداً من قراراتي ومواقفي التي أحدثت فرقاً في حياتي.

 نحن شعوب عاطفية إلى أبعد ما يمكن أن يكون، لذلك فنحن بالمجمل حريفة تعلّق بكل شيء، بالحبيب، بالصديق، بالأماكن.. قليل منا لديه قدرة الرحيل حين يؤون الأوان. حتى في المناصب، نادراً ما يقرر أحدنا أن قد آن أوان الرحيل والبحث عن بداية جديدة، بل على العكس، ما أن يخرج أحدنا من منصبه حتى يبدأ بالبحث عن كيفية العودة إليه أو إلى ما يشبهه.

 كلمة "ارحل" التي أسقطت أنظمةً مستبدةً متجذرةً في ثورات الربيع العربي، ربما أنتجت هذا الأثر الكبير والعميق لأنها ضربت في عمق آفة الإدمان، إدمان السلطة والمناصب وغياب كلمة الرحيل عن قاموس ألائك المدمنين، لذلك كان سقوطهم مدوي وفاضح وبعضهم لم يقوَ على التعافي من إدمان السلطة فمات في المنفى وحيداً دون تأبين أو رثاء، أو في بلده دون أن يشعر به أحد.

 حين نتعلق بحبيبة أو حبيب،  فبعضنا يختزل الدنيا والحياة في هذا الشريك، فتتجمد قدرتنا على التقييم ورؤية الفجوات وحتى احترام الذات، فترى كثير منا يتقمص عن غير قصد شخصية من يحب ألفاظاً وأسلوباً بل  ومواقف من أشخاص وأحداث وأفكار.

 التعلق إدمان، يسلبك كل شيء: القدرة على الاختيار واتخاذ القرار والاستقلالية وإدراك المنطق من الأمور، إنه يسلبك نفسك وكأنك تحت تنويم مغناطيسي، كل خطأ مبرر وكل فعل مقدّر وكل رغبة محققة. المتعلّق المدمن يبذل كرامته وكينونته عن طيب خاطر تحت قدمي شريكه وينام قرير العين لأنه يسمي ذلك "تضحية من أجل الحبيب"، وهو يصدق الكذب ويكذب الحقيقة ويبني مواقفه تبعاً لما يضمن له استدامة التعلق بالطرف الآخر.

 المستوى العلمي والمعرفي والثقافي ليس حائلاً من إدمان التعلق والتأثر بأعراضه وأمراضه، فكم من مدمن متعلق لم يسعفه فكره المستنير وعلمه الوفير في النجاة من فخ التعلق وقيوده، حتى أن المثقف المدمن قد ينقلب سطحياً تافهاً ما دام هذا يجسر فجوةً أو بالأحرى يردم حفرةً بينه وبين الطرف الآخر.

 بون شاسع بين إنكار الذات وامتهانها بإدمان التعلق، فالعطاء المفتوح لمن يدور في فلك نفسه هو إهدار لقيمة النفس، فكأنك فيه مجرد صنبور ماء مفتوح لكل ظمآن، يعرف قيمتك حتى يرتوي ويمضي ولا يبقى منك في ذاكرته شيء، ثم إذا نفد منك الماء لا يلتفت إليك أحد. فمن الحكمة أن نكون في عطائنا مثل المطر، موسميون، ينتظرنا من يعرفون قيمتنا بشغف،يعطوننا مقابل إغداقنا عليهم ضحكات ودعوات، وإن تأخرنا عليهم قليلاً رفعوا أكف الدعاء وأقاموا الصلوات، ولا بأس أن يهدر بعض العابثين والأنانيين شيءً من خيرنا في الطرقات والمصارف، فهذا ثمن مقبول طالما في مقابل ذلك ستنتفخ جذور الأشجار وترتوي عروقها وتتبلل أوراقها، والأزهار تهيئت لتتفتح وتروي شبقها بغزل الناظرين.

 كم مرةً ظنّ بعضنا أن الدنيا قد رحلت حين رحل عنا حبيب أو تخلى عنا صديق، حينما لا تكون قادراً على الرحيل فوظيفتك في هذه الحياة تصبح البكاء على أطلال من رحلوا والسير خلف سراب عودتهم، وفي أحسن الأحوال انتظار البديل دون أن تتعلم القدرة على الرحيل ليمكثوا قليلاً أو طويلاً ثم يرحلوا فتعاود الكرة بدل المرة ألف مرة. 

 علّمُ أنفسكم وأولادكم الرحيل لكي لا تضيع من أعماركم القصيرة أيام غوالي في رثاء من يستوجب زوالهم الابتهاج، ولكي تكون النهايات في حياتكم احتفالاً بالتحرر من وهم قيّد عقولكم وغلّف قلوبكم وأطفأ حضوركم، تعلمُ الرحيل لكي لا تتجرعوا ألماً غير مستحق لرحيل من لم يستحق أن تبدأوا معهم، تعلمُ الرحيل لأن إدمان التعلّق بيع للحقيقة بالوهم والمنطق بالخيال وتسليم النفس لنخاسين غايتهم البحث عن مطيّة يركبونها ثم يتركونها حالما وجدوا مطيةً أسرع توصلهم إلى غايتهم التي هي أي شيء سوى محبتكم والإبقاء عليكم أو البقاء معكم.

 

أضف تعليقك