أمانة عمان وسطوة الكهنوت التي لا تموت

 في كل مرة نظن فيها أننا وصلنا إلى قعر التمييز والإقصاء والتطرف نتفاجأ بأن ثمة درك آخر لنسقط فيه مع كل مقالة أو مقولة أو صورة أو تغريدة تأبى مستقبلات منعدمي الأفق الفكري من عشاق العنعنة والشيطنة إلا ترجمتها وتأويلها وفقاً لفقه "لن ترضَ عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم".

 الإيهام والتوهم بوجود أعداء يصلون الليل بالنهار ليكيدوا لنا ويحيكوا المآمرات الكونية ضدنا؛ هو جزء أصيل من منظومة تكريس الإأحساس الزائف بالعظمة والشيفونية المقيتة التي جعلتنا نصدق فعلاً أننا خير من وطأ الأرض وعمرها حتى لو كنا واحداً من أكبر مسببات خرابها وتدهور أحوالها من خلال ما قام به الأوائل من غزوات واحتلال استيطاني لبلدان كل ذنبها أنها عاشت بسلام وآمنت بديانة أخرى لم ترق لهم ورفضت دفع الإتاوة للفتوّة، فكان مصيرها اغتصاب أرضها وسبي نسائها وغلمانها وأسر رجالها وتشويه هويتها وتدمير معالم حضارتها وطمس ثقافتها.

 مع انحسار ذلك الإستعمار الإستيطاني وانهيار الدول والدويلات التي أقيمت على أنقاض الأمم التي تم اغتصاب أرضها، بدأ مدمنو إذلال المخالف واطهاده يسلطون سيفهم الاستئصالي على بني جلدتهم من أصحاب الديانات بل والمذاهب الأخرى، فأعملوا فيهم القتل والترويع والترهيب كما فعلت الجماعات الإرهابية مثل التكفير والهجرة والجماعة الإسلامية والقاعدة وداعش وكما تفعل إيران ومن قبلها جميعاً  الحركة الوهابية التي أحيت إرث الكراهية والتكفير وعصور الظلام والتخلف الحضاري والثقافي الخوالي، بالتزامن مع تعزيز نظرية الاستهداف والتآمر على "خير الأمم" لإشباع حاجةً جمعيةً بالأهمية والتأثير.

 لا تستشعر الدولة عندنا خطر تنامي الفكر المتطرف الاستئصالي الذي لا يخجل أصحابه من المجاهرة به بل والترويج له في كل مناسبة، فتراهم يبثون عفنهم الفكري قبل كل رأس سنة محذرين أمتهم من تهنئة المسيحيين بعيدهم لأن في هذا "اعتراف بصحة معتقدهم وإقرار بحقهم في ممارسة شعائرهم في أرض إسلامية"، وإيثار الدولة أخذ موقف المتفرج من هذا الإرهاب والتطرف غير مفهوم اللهمّ إلا إذا كان غرضه التواري عن مواجهة تيار تعلم أنه تغلغل إلى حد باتت مقاومته ومقارعته معركةً خاسرة، وهذا إن صح مصيبة وكارثة ما بعدها كارثة.

 قامت جمعية دار الكتاب المقدس التي قارب عمرها على النصف قرن في الأردن بتعليق يافطات بمناسبة الاحتفالات بمئوية الدولة وعيد الاستقلال؛ كتب على بعضها عبارة من العهد القديم تقول "أَمَّا الْوُدَعَاءُ فَيَرِثُونَ الأَرْضَ، وَيَتَلَذَّذُونَ فِي كَثْرَةِ السَّلاَمَةِ"، لتتلقفها عين الأشاوس المستهدفين مؤرّقي مضاجع الأعداء؛ ليقدّموها لأمة "الجهاد بمظلومية الاطهاد" دليلاً على: "استمرار المآمرة الماسونية المتصهينة التي تريد ضرب الأمة في مقتل وتمزيق وشائج تكاتف أبنائها في وجه قوى الظلام الآثمة التي تريد أن تطفئ نور الله والله يأبى إلا أن يتم نوره".

 هذا المسلك المشين ممن هاجموا الجمعية بدلاً من شكرها على تهنئتها للمواطنين وقائد الوطن واتهموها ب"التصهين" و"ضرب المعتقدات الدينية" ليس مفاجئاً بل منسجماً مع تنامي تيارات التطرف والإرهاب الفكري، لكن المفجع كان انقياد مؤسسة وطنية كبيرة مثل أمانة عمان خلف جموع من الدهماء في تطرفها حيث أعلنت الأمنانة براءتها وتبرؤها من اليافطات وما كتب عليها، في تبني رسمي خطير لتوجهات ديماغوغية استئصالية، ليتكرر المشهد البائس ذاته الذي حدث مع الكاتب الراحل ناهض حتر حينما انساقت الحكومة مع تيار التكفيريين الذين هاجموه فاعتقلته وأحالته للمحاكمة لينبري أحد المتعجلين لقاء الحور العين لقتله في ساحة قصر العدل في وضح النهار. هذا التصرف من أمانة عمان يبعث على الذعر لأنه يعني ببساطة أن الدولة باتت مقطورةً للتخوين والتطرف والتكفير بدلاً أن تكون قاطرة التحديث والتغيير.

 انتقال مؤسسات الدولة من موقف المتفرج على الفكر المتطرف وهو يزحف ويتغلغل في المناهج والممارسات والكتابات والتغريدات إلى موقف المتماهي مع هذا الفكر، يعكس ربما تسلل التطرف والإرهاب الثقافي إلى مفاصل ومؤسسات حيوية في الدولة، الأمر الذي يتطلب ثورةً تصحيحيةً إن لم تضعنا على طريق الاعتدال وقبول الاختلاف والتنوع، فعلى الأقل تحول دون مزيد من السقوط في هوة الإقصاء ورفض الآخر التي ما لها من قرار.

 كانت أمانة عمان ستسجل ريادةً وتسطر نموذجاً في محاربة التطرف لو أنها شكرت الجمعية ووضعت منشور ليافطاتها على موقعها الرسمي حتى لو لم تكن قد حصلت على ترخيص لتعليق اليافطات كما تدعي الأمانة، إذ كان هذا المسلك سيبعث برسالة من مؤسسة وطنية عريقة إلى الكافة، بأننا رواد احترام الأديان والاختلاف ومنارة التنوع الفكري والثقافي وآخر من يمكن الزج به في معترك التخوين والتكفير، لكن بكل أسف، يبدو أن سطوة الكهنوت تقتل ولا تموت.

 

اقرأ ايضا: جمعية الكتاب المقدس: ما قمنا به من نشر للتهنئة واجب وطني

أضف تعليقك