نساء أضناهن العمل في مزارع ديرعلا
* ١٠ آلاف امراة يعملن في ظروف قاسية يغيب عنها الضمان والتأمين الصحي * حقوقهن ضائعة بين اصحاب المزارع *نظام قانوني قيد الاعداد منذ اربعة اعوام
تحقيق منيرة الشطي لوثائقيات حقوق الإنسان
على مدى عشرين عاما، تبادلت السبعينية فاطمة مبارك الادوار مع زوجها جدوع؛ فهي تعمل في المزارع طوال النهار، فيما هو قابع في البيت يعتمد عليها في تامين مأكله ومشربه وحتى سجائره.
وخلال هذه الاعوام العشرين، كانت فاطمة تخرج منذ الصباح الباكر من منزلها في بلدة كريمة في الاغوار الشمالية للعمل في الوحدات الزراعية في لواء دير علا في الاغوار الوسطى، وذلك لقاء اجر زهيد بالكاد يكفي لسد الرمق.
تقول فاطمة التي تمكنت من تربية خمسة ابناء بالقليل الذي تجنيه، فضلا عن اعالة جدوع “لا اعتمد على زوجي أبدا”.
والمرأة التي تبدو اخاديد تعب السنوات الطويلة غائرة في وجهها، لا تلوم زوجها على ركونه الى البطالة والاسترخاء فيما هي تكدح تحت لهيب شمس الاغوار الحارقة، بل تلوم نفسها وتقول “أنا جعلت منه شخصا اتكاليا ببساطة”.
ورغم ان ابناءها كبروا وباتوا يعيلون انفسهم الان، الا ان نمط حياة فاطمة لم يتغير.
فهي ما تزال تستيقظ في الصباح الباكر لتسلك ذات الطريق الذي اعتادت ان تسلكه منذ عشرين عاما حتى تصل الى المزارع في دير علا التي تبعد اكثر من ثلاثة كيلومترات الى الجنوب من بلدتها كريمة.
وبأسى واستكانة تقول فاطمة التي بدأت ابنتها الصغرى تصحبها في هذه الرحلة اليومية منذ بضع سنوات “يبدو ان الشقاء مكتوب علي”.
في بيوت البلاستيك
داخل احد البيوت البلاستيكية في مزرعة “سامي الشوبكي” في دير علا، تصطف فاطمة إلى جانب نحو عشر عاملات أخريات امام خطوط طويلة نمت فيها اشتال البندورة، وتنهمك معهن في قطف الناضجة منها ولفها بالورق. وبين الحين والآخر يقمن بحراثة التربة لزراعة اشتال جديدة.
وخلال العمل، كانت تنطلق ترنيمات وأصوات غناء جماعي رتيب من حناجر العاملات في هذه المزرعة التي تمتد على مساحة 30 دونما وتضم نحو 12 بيتا بلاستيكيا اخر، في كل منها نساء لا تختلف أحوالهن كثيرا عن أحوال فاطمة وزميلاتها.
تقول حليمة، وهي إحدى زميلات فاطمة “نحن نغني لتمضية الوقت والتسرية عن انفسنا، لأننا نعمل في القطاف منذ الصباح الباكر وحتى الظهيرة، والعمل طيلة هذه الساعات داخل البيوت البلاستيكية يصيبنا بالإجهاد”.
وفي الصيف الذي يمتد اشهرا طويلة في الأغوار وترتفع فيه الحرارة متجاوزة الأربعين مئوية، تحول الرطوبة البيوت البلاستيكية الى ما يشبه حمام البخار الذي يستنفد طاقة العاملات ويزيد من شعورهن بالإجهاد.
اما في اشهر الشتاء القصير والمعتدل عموما، فان الحال تصبح افضل بالنسبة لهؤلاء العاملات.
وبحسب بيانات مديرية زراعة وادي الأردن فان عدد العاملات في المزارع يتجاوز 10 آلاف، غالبيتهن يعملن في القطاف.
يضم البيت البلاستيكي الذي تعمل فيه فاطمة نساء قريبات من سنها، من امثال نايفة مصطفى (63 عاما) وحمدة الماضي (64 عاما).
ووجودهن معا في هذا البيت البلاستيكي لم يأت جراء فرز إلزامي من صاحب المزرعة، بل بسبب رغبتهن في ان يكن معا بحكم تقاربهن في السن وطريقة التفكير.
ذات الفرز العفوي ينسحب أيضا على العاملات الأصغر سنا، واللواتي يحبذن العمل في بيوت بلاستيكية تضم عاملات قريبات من أعمارهن.
ومن هؤلاء أحلام (24 عاما)، وهي البنت الصغرى لفاطمة. وقد رافقت احلام امها اول مرة للعمل في المزارع عندما بلغت العشرين من عمرها. وسيرة حياتها لا يبدو انها ستختلف كثيرا عن سيرة حياة امها حيث تقول “نخرج للعمل منذ ساعات الصباح الأولى وحتى الظهيرة، ونعود للعمل في الفترة الثانية من الساعة الواحدة وحتى السادسة مساءا”.
وقبل بدئها العمل في المزارع، كانت احلام التي كبرت قبل اوانها تتولى اعمال المنزل في غياب امها.
وتتذكر احلام كيف كانت تشعر بالحرقة عندما تشاهد جارتهم “تمشط شعر بناتها وتهتم بأحوالهن” في حين ان امها بعيدة عنها طوال النهار.
لكنها تقول بنبرة تنم عن قوة شكيمة ان “هذا واقع تعايشت معه”.
حقوق ضائعة
نايفة زميلة فاطمة، اضطرت للعمل في المزارع من اجل إعالة أسرتها المؤلفة من ثماني بنات وثلاثة أولاد، بعد وفاة زوجها في العام 1996.
تصف نايفة التي لم تجد فرصة عمل في منطقة الأغوار سوى في الزراعة، المعاناة التي تكابدها وزميلاتها خلال عملهن في المزارع، وتقول “نحن نعمل في ظروف صعبة وقاسية. نتحمل حر الصيف في البيوت البلاستيكية، وفي الشتاء تتساقط علينا الأمطار ونحن نجلس في الصناديق المفتوحة لسيارات البكب التي تنقلنا من والى المزارع”.
ولا تتجرأ العاملات اللواتي يمكن مشاهدتهن متكدسات في صناديق البكبات وهي تخترق الطرق الضيقة بين المزارع، على الاعتراض على طريقة نقلهن التي تعتبرها الكثيرات منهن “مهينة” فضلا عما تشتمله من معاناة.
تقول العاملة نعيمة رشيد (٢٧ عاما) “إذا اعترضت فمن السهل الاستغناء عني، وفي هذه الحالة أصبح عاطلة عن العمل ولا يوجد من يعيل أسرتي”.
ونعيمة كما تخبرنا، تخلت عن حلمها باكمال دراستها عندما كانت في الصف الخامس، واتجهت للعمل في المزارع من اجل مساعدة امها في اعالة اخوتها بعدما تخلى والدها عنهم اثر زواجه من أخرى.
مادلين خالد، جارة نعيمة في العمل، ام لثلاثة اطفال، وقد انهت المرحلة الثانوية بنجاح، لكنها لم تتمكن من اكمال دراستها الجامعية بسبب صعوبة ظروفها المالية، واضطرت في النهاية للعمل في المزارع بعدما فشلت في الحصول على عمل اخر في الاغوار.
وبالاضافة الى ظروف العمل القاسية، فان العاملات لا يتمتعن بأي من حقوق العمال الاخرين، وفي مقدمتها التأمين الصحي والضمان الاجتماعي. وهن لا يطالبن بهذه الحقوق خشية تعرضهن للطرد من قبل اصحاب المزارع.
تقول فاطمة “لا استطيع كعاملة أن أطلب من صاحب العمل شمولي بالضمان الاجتماعي والتأمين الصحي، لأنه سوف يستغني عني ببساطة. وأنا بأمس الحاجة للعمل”.
وفي ظل هاجس الخوف من فقد العمل في حال المطالبة بالحقوق، ترتضي العاملات بشروط صاحب العمل حيث ساعات الكد الطويلة، والأجور المتدنية التي لا تتجاوز في المعدل ستة دنانير في اليوم.
كما يرتضين العمل دون وسائل وقاية وسلامة عامة لا يوفرها لهن أصحاب المزارع، مثل القفازات والقبعات الواقية من الشمس والكمامات التي تحول دون استنشاقهن للمبيدات الحشرية وغبار الاسمدة الكيماوية.
ومن المفترض ان تراقب وزارة العمل مدى توفر وسائل الوقاية هذه للعاملات، لكن مادلين تؤكد أنها لم تر خلال سنوات عملها موظفا من الوزارة يقوم بمتابعة احوالهن.
رقابة غائبة
تصف رئيسة الاتحاد النسائي في ديرعلا عجائب هديرس أوضاع العاملات في المزارع في منطقتها بانها “سيئة جدا”.
وتقول هديرس التي أجرت دراسة عام 2010 حول أوضاعهن، ان واقعهن السيئ هذا ناجم عن “غياب قانون يحمي العاملات من المبيدات الحشرية المستخدمة والأحوال الجوية السيئة، وغياب الضمان الاجتماعي والتأمين الصحي، إضافة إلى ساعات العمل الطويلة وتدني الأجور التي لم تصل للحد الأدنى البالغ 150 دينار شهريا (بحسب قانون العمل)”.
وقد خلصت هديرس في دراستها إلى المطالبة بوضع أنظمة قانونية تحمي العاملة في الزراعة؛ وتكفل شمولها في الضمان الاجتماعي والتأمين الصحي. كما تؤكد ان الأساس هو تفعيل الدور الرقابي في وزارة العمل على الوحدات الزراعية.
ويؤيدها في ذلك احمد عوض، مدير “المرصد العمالي” الذي يوثق واقع العمالة، حيث يؤكد ان “وزارة العمل، هي الجهة الحكومية الوحيدة المعنية بالعاملات. لذا مطلوب من الوزارة تفعيل دور دائرة التفتيش لمعرفة ما يدور على أرض الواقع من انتهاكات” لحقوق العاملات.
ومن جانبهم، يلقي اصحاب المزارع بالمسؤولية على العاملات في عدم شمولهن بالضمان الاجتماعي والتأمين الصحي.
ويقول علاء العبادي احد اصحاب المزارع في ديرعلا ان “عدم التزام العاملات مع أصحاب العمل بدوام محدد، هو السبب”.
سامي الشوبكي، الذي يمتلك المزرعة التي تعمل فيها فاطمة، يقول بدوره ان “عدم انتظام العاملات بالدوام اليومي، كونهن يعملن في أكثر من مزرعة في اليوم الواحد..يعزز من عدم التزام أحد في إدخالهن بالضمان الاجتماعي والتأمين الصحي”.
ويضيف سببا اخر وهو ان “أجرة العاملات لا تغطي نسبة الاقتطاع المطلوبة للضمان الاجتماعي..حيث تصل الأجرة في خمس ساعات عمل إلى أربعة دنانير، واحيانا خمسة دنانير. لذا النسبة مرتفعة على العاملات”.
والحد الادنى للاجر الشهري الخاضع للاقتطاع في الضمان الاجتماعي هو الذي حدده قانون العمل والبالغ 150 دينارا. وهو ما لا تحصل عليه معظم العاملات.
ل
شركة لم تر النور
قبل ثلاثة أعوام، تأسست “شركة وادي الاردن لتشغيل العمال الزراعيين“، بهدف انهاء معاناة العاملين في هذا القطاع من الأردنيين. لكن الشركة فشلت.
يقول فؤاد سلامة، رئيس هيئة المديرين في الشركة التي تاسست بالتعاون بين وزارتي العمل والتنمية الاجتماعية والقطاع الخاص برأس مال قدره 200 ألف دينار، ان الشركة “لم تدم طويلا، حيث تم تصفيتها قبل إكمال عامها الأول، بسبب عدم تحقيق الأهداف المرجوة من وجودها في ديرعلا“.
ويوضح سلامة في تصريحات صحفية “جاء تأسيس الشركة لمعالجة البطالة والفقر وإحلال العمالة الأردنية مكان العمالة الوافدة وتحفيزهم على الانخراط بالعمل الزراعي من هنا قمنا بالشركة بجولات وزيارات ميدانية بهدف تعريف الشباب بأهداف الشركة وما تقدمه من امتيازات للعمال مثل التامين الصحي والضمان الاجتماعي وتامين العمل على مدار العام والحصول على الأجر المناسب“.
لكنه يقول ان ذلك “لم يسفر عنه نتائج ايجابية فالذين تقدموا للعمل بالشركة يرغبون فقط بالأعمال الإدارية المكتبية وهذا ليس الهدف الأساسي للشركة‘.
وأشار إلى أن الشركة “تلقت خلال العام الأول 300 طلب للعمل منها 200 تشترط الأعمال الإدارية“.
سلامة يقول ”أن الحد الأدنى المفترض للتشغيل في خطة الشركة منذ تأسيسها حدد بـ300 فتاة وهو العدد الذي لم يتوفر ثلثه لان الفتيات يفضلن العمل الحر في المزارع‘.
غير ان عضو مجلس النواب عن لواء ديرعلا طلال الفاعور حمل الحكومة المسؤولية عن “فشل” الشركة، بسبب “عدم ترويجها بشكل اكبر“.
ويقول الفاعور انه سيقدم طلبا إلى مجلس النواب “لتشكيل لجنة لتتم إعادة فتح شركة وادي الأردن من جديد، وتفعيل دورها بشكل افضل مما جرى في السابق“.
رغم فشل شركة وادي الاردن، الا ان الساحة لم تخل تماما من المحاولات والمبادرات التي تقوم بها مؤسسات مجتمع مدني بهدف تحسين ظروف العاملات.
فهناك مثلا “جمعية ذات النطاقين النسائية” التي تقدم قروضا ميسرة لمشاريع زراعية للسيدات، اضافة الى برامج لتوعية العاملات.
تقول مديرة الجمعية فضة الحديدي أن جمعيتها تقدم محاضرات للعاملات عن كيفية حماية أنفسهن من المبيدات والاسمدة، واهمية وكيفية استخدام وسائل السلامة العامة كالقفازات والكمامات والقبعات وغيرها.
,وتشير إلى أن الجمعية “قدمت قروضا ميسرة لمشاريع زراعية اقتصرت على السيدات اللواتي يملكن وحدات زراعية، حيث حصلت 11 سيدة على تلك القروض“.
حلول معلقة
رغم ان عمال الزراعة تم شمولهم في مظلة قانون العمل لعام 2008، الا ان التطبيق ما زال معلقا على صدور نظام خاص يضمن حقوق العمال الزراعيين وفقا للقانون.
وقال إبراهيم السعودي مدير الدائرة القانونية والإعلام بالإنابة في وزارة العمل أن “كل الأمور المتعلقة بقضايا عمال الزراعة مرتبطة بإصدار النظام، وفي حال صدوره سيشمل كل العاملين في القطاع، وبالتالي سيتمتعون بجميع الحقوق بموجب قانون العمل من حيث تحديد ساعات العمل والحد الأدنى للأجور والإجازات والضمان الاجتماعي“.
ويتوقع السعودي ان يصدر النظام هذا العام.
ويوضح “اجتمعت الجهات ذات العلاقة والمتمثلة باتحاد المزارعين واتحاد عام نقابات عمال الأردن والعديد من مؤسسات المجتمع المدني ووزارة العمل لوضع مسودة وهي في مراحلها النهائية وسيتم إصدار النظام، هذا العام لإنهاء مراحله” القانونية.
وحتى ذلك الحين، يقول السعودي ان الوزارة ستواصل الاضطلاع بمهامها في مراقبة ظروف عمل الزراعيين.
ويؤكد انه “إذا وجدنا انتهاكات تتعرض لها العاملات فسوف تقوم الوزارة بمعاقبة أصحاب العمل، من خلال تطبيق أحكام قانون العمل بغض النظر عن صدور النظام”.
ودعا السعودي العاملات في الزراعة الى “التقدم بشكاواهن لمكاتب العمل الموجودة في مناطقهن في حال تعرضهن لانتهاكات“، مشددا في السياق على ان الوزارة ملتزمة “بالتفتيش على الوحدات الزراعية المشغلة للعاملات“.
إستمع الآن