وطن العميان

وطن العميان
الرابط المختصر

 

 

يسكن وطن العميان مبصرٌ واحدُ نُصّب زعيماً أبدياً يوّرث زعامته لأبنائه الذكور، في سلالته الوحيدة المحصنة من "العمى" والأخطاء، إلى درجة لا ينفك الإعلام يروي مناقب العائلة الحاكمة ليل نهار.

 

النشيد الوطني لبلد العميان يمجّد البصر والبصيرة، ويُعظّم أولئك المبصرين الذين تعاقبوا على حكْم البلاد، ولم يرضوا أن تدب الفوضى بين العميان.

 

أصدر الزعيم قراراً منذ ثلاثين عاماً يستبدل مفردة الأعمى بالكفيف، لكن أحداً لم يلتزم بالقرار التاريخي، واحتفظ البلد وسكانه بعماهم، ويتعلم المواطنون لغة بريل، المخصصة للمكفوفين، لكنهم يُمنعون من تعلّم الفلسفة في مدارسهم، ومن تداول كتبٍ تنتقد المقدسات والثوابت التي تتضاعف مع مرور الأيام.

 

ينقسم سكان البلد إلى عميان من الولادة، وآخرين أصيبوا بالعمى بعد تعرضهم إلى وباء عمّ المنطقة بأسرها، وتمارس التعمية على هذا الانقسام من خلال شعارات الوحدة الوطنية، والعيش المشترك، والسِلْم الأهلي، بينما يجري نقل خطاب الكراهية إلى الأجيال المقبلة!

 

تضيع الحقيقة في بلد العميان؛ فالجميع يصرّ على امتلاكه إياها، وليس هناك حكمٌ يستطيع الفصل بينهم إلاً الزعيم كونه المبصر الأول والأخير في عرض البلاد وطولها، ولا يحق لأحد التساؤل عن نفقاته وتنقلاته، وإن طال غيابه.

 

أهل البلاد يعتقدون أنهم يحيون في أكثر البلاد أمناً وحرية، وأن زعيمهم هو أعدل الحكّام على وجه البسيطة، فهم لم يعرفوا بلاداً غير بلادهم، ولم يبصروا سلطاناً إلا سلطانهم، وتؤكد المناهج الدراسية على بصيرة زعيم البلاد النافذة، ويلقن المدرسون حبّه لتلامذتهم لأن افتقاد الزعيم سيدخل البلاد في فوضى، ولن يستطيع العميان حكْم أنفسهم بأنفسهم.

 

تبدّل الحكومة مرةً كل ستة شهور، فكل رئيس وزراء يرحب به في الشهور الأولى، ثم تعود الصحافة لتعيره بعماه، وعندها يقدّم استقالته ليعين أعمى غيره، ويحدث أن يدير الزعيم صراعات مؤقتة بين مراكز القوى، ويدعي أمام الصحافة الأجنبية أن هذه المراكز، لا غيرها، هي من تعيق مسيرة الإصلاح.

 

صحافة البلاد تظهر هامشاً معقولاً من الحرية واستيعاب الرأي الآخر، لكن العارفين بشؤون الإعلام يؤكدون أن دائرة العمى العامة تفرض سيطرتها الناعمة عليها، ويشهد عليه تطابق مانشيتات الصحف اليومية إذا ألمّت الحالكات.

 

جميع المواطنين الذين يتمكنون من إجراء عملية تعيد إليهم بصرهم؛ يُنبذون من مجتمعهم ويضطرون إلى الهجرة، والبحث عن مكان يحتملهم بعد أن رُدّ البصر إليهم، ومن يبقى منهم يمضي بقية حياته أعمى، بإرداته، فلا يبصر شيئاً تعبيراً عن ولائه الكامل لتقاليد البلاد.

 

الأمور تسير على عادتها في بلد العميان، ولا يعلم أهلها مصير الحروب التي تخوضها قيادتهم، أو مآلات قضايا الفساد وغيرها من المسائل العالقة، حتى سرت إشاعة بين المواطنين تفيد بأن الزعيم المفدى قد أصيب بالعمى منذ سنين، ولم يعد ثمة ما يميزه عن غيره، وتبذل الجهات المختصة جهودها لمنع تداول هذه الأنباء، غير أن الحقيقة تقول إن العميان أصبح يقودهم أعمى!

 

محمود منير: كاتب وصحافي. محرر “تكوين” في عمان نت.

أضف تعليقك