"وسواس" التوطين!

"وسواس" التوطين!
الرابط المختصر

تبالغ نخبةٌ من السياسيين في مخاوفها وهواجسها من قضية "التوطين السياسي"، كما حدث مؤخّراً في الموقف من الأنباء عن توجه حكومي بمنح أبناء الأردنيات المتزوجات من غير أردنيين حقوقهم المدنية؛ مثل الصحة والتعليم والعمل والإقامة والتملك، من دون الحقوق السياسية، والذي جاء في سياق الحوار بين الحكومة ومجموعة المبادرة النيابية، ويمثّل الحدّ الأدنى المقبول لإنصاف الأردنيات وأبنائهن.

ولاحظوا أن الحديث هنا ليس عن الجنسية أو عن الحقوق السياسية (الانتخاب، والترشح، وتشكيل الأحزاب، وممارسة العمل السياسي)، برغم أنّ كثيراً من القوانين في دول العالم تعتبر ذلك حقّاً للمرأة، مثل الرجل.

وجه الغرابة يتبدى في عدم إدراك الجوهر في الاعتراض على ذلك، طالما أن الموضوع متصل بحقوق مدنية لا سياسية، ولا توجد فيه أي شبهة للتوطين أو "تغيير" الهوية الديمغرافية؛ وطالما أنّ النتيجة ستتمثل في تحقيق الحدّ الأدنى من العدالة الحقوقية والإنسانية. فهل من المقبول أن نمنح حق الإقامة والعمل والتملك لكثير من الأجانب، ونمنعه عن "أبناء الأردنيات"، خشية من التوطين، وكأننا نعاقبهم ونعاقب أمهاتهم معهم؟!

الموضوع الذي حظي بنصيب أكبر من القلق والتخويف هو قرار مجلس الوزراء بتعديل قانون جوازات السفر بما يمنح تفويضا لوزير الداخلية بإصدار جوازات سفر لحالات إنسانية وخاصة، وهو ما قُرئ، من قبل هذا التيار، بتهويل كبير، برغم أنّه كان معمولاً به لما يزيد على عشرة أعوام!

وتؤكّد مصادر حكومية أنّ ذلك ترتّب على لقاء مع المستثمرين العراقيين بالحكومة، لبحث مسألة تشجيع الاستثمار، فكانت أغلب ملاحظات المستثمرين العراقيين، تتحدث عن الصعوبات التي يجدونها في السفر والإقامة، وفي عدم وضوح التعليمات والشروط المتعلقة بالحصول على هذه الوثائق التي تسهّل عملهم، مثل المبلغ المطلوب، وعدد العاملين الأردنيين، بالإضافة إلى مطالبات بأن تتجاوز مدة الجوازات عاماً واحداً، إلى مدد أكبر من ذلك!

بالطبع، الأمر لا يرتبط بالجنسية، وإنّما بجوازات مؤقتة، بلا أرقام وطنية، ومشروطة، وواضحة، ولأهداف استثمارية وإنسانية، وفق مشروع القانون المعدّل لقانون جوازات السفر 2013.

القلق الذي يبديه التيار المتخوف يكمن من عبارة "لغايات إنسانية"؛ فهي مطّاطة وعامة، ويرى أنّها تنطبق على مليون من حملة البطاقات الخضراء، ونصف مليون غزّي مقيمين في الأردن، و400 ألف امرأة متزوجة من غير أردنيين، ومئات الآلاف من اللاجئين الذين حصلوا على هذه الوثيقة "لغايات مالية وسياسية"!

إلاّ أنّ ذلك التخوّف، برأيي، مبالغ فيه جداً، وغير واقعي، بل وينطوي على تناقض في منطقه الداخلي. وبعيداً عن مدى صوابية الأرقام، فأصحاب البطاقات الخضراء يملكون أصلاً جوازات سفر بلا أرقام وطنية، بينما هواجس التوطين تتعلّق بمن يمتلكون أصلاً جوازات سفر، بطاقات خضراء، وجوازات مؤقتة، خشية أن يتم منحهم الأرقام الوطنية والبطاقات الصفراء، أي إنّنا نتحدث عن موضوعين منفصلين تماماً، وعن هواجس لا أساس لها من الصحّة فيما يتعلّق بهذا التوجه!

هذا وذاك لا ينفي مشروعية القلق والخشية من إسرائيل ومخططاتها الرامية إلى التخلص من عبء القنبلة الديمغرافية الفلسطينية، وإقامة "صيغة ما" للوطن البديل. لكن طرح ذلك التهديد لا بد أن يأتي ضمن سياق وطني جامع، وحوار عقلاني، ورؤية موضوعية علمية، مبنية على تصوّرات واقعية؛ أمّا ما نقرأه مؤخّراً من خطابات، فيتجاوز الحدّ المنطقي إلى حالة "الفوبيا" الحقيقية، ولغة مسكونة بالمبالغة، عبر تصوير كل ما يحدث ضمن هذا المنظور الذي أصبح بمثابة "الوسواس"!

بيت القصيد أنّ هذا الخطاب يضر بالقضية التي يجعلها اتجاه سياسي على رأس أولوياته؛ إذ يظهر دوماً في خندق معادٍ للحقوق المدنية والقانونية، وللاعتبارات الإنسانية، وضد تسهيل الاستثمارات، ومتحفظ على مصطلح المواطنة، ومحافظ في الإصلاح السياسي، من دون تقديم خطاب بديل مقنع ومتقدم!

الغد