هَل مِن هُنا يَأتي.. أم مِن هُنا يَأتي

هَل مِن هُنا يَأتي.. أم مِن هُنا يَأتي
الرابط المختصر

"وَبقيتُ مُنتَظِراً... مُتَلَفِّتاً.. قَلِقاً.. قد فاتَ موعِدُها.. وَعَقارِبُ الساعةِ.. تَمْشي على مَهلِ.. وأقولُ في صَمتي.. هل من هُنا تَأتي... أم مِن هُنا تأتي ... *** وَلَعَلَّها نَسِيَت.. وَلَعَلَّها شُغِلَت.. وَلَعَلَّها سَخِرَت مِني بِموعِدِها.. وَلَعَلَّها قَصَدَت غَدراً وَلَن تَأتِ.. هل مِن هُنا تَأتي... أم مِن هُنا تَأتي".

إنَّهُا لوعَةُ وأزمَة التَرَقُّبُ الَّتي يُعبِّرُ عَنها الشاعَرُ الراحِلُ عمر الفَرّا (1949 – 2015) الَّذي لا نَدري ما إذا كانت هذه الأبياتُ مِن وَحي شيطانِ شِعرِهِ أم أنها تَجسيدٌ لتَجرِبَتٍ حيَّةٍ لا يكادُ مَن يُمكِنُ استثناؤُهُ مِن حَتميَة المرورِ بِها سواءً في سِنِّ المُراهَقةِ أم ما بَعدَ البُلوغِ أم في كِليهِما.

"هَل مِن هُنا يَأتي.. أم مِن هُنا يَأتي"، الّلافِتُ للنَّظَرِ في قَصيدَةِ "موعِد" للفَرّا التي مِنها اقتُبِسَ البيتان اللَّذانِ استُهِلَت بِهِما هذه المَقالةُ؛ هو أنَّ الشاعِرَ لَم يُنهِ قصيدَتَهُ نِهايَةً “مُغلَقَةً” بحيثُ تَأتي مَن يَنتَظَرُها فيُعاتِبُها على التأخيرِ فتَعتَذِر لَهُ لأنَّها اضطُرَّت مَثَلاً لعَمَلِ فِنجان قَهوَة لعَمَّتِها ثَقيلَةُ الدًَمِ الَّتي كَعادَتِها "طَبَّت عليهُم فَجأةً"، أو أنَّها تَأتي فَتَمُرُّ أمامَهُ وقَد التَفَت حولَ خاصِرَتِها ذِراعُ رَجُلٍ آخَرَ لِتَنهارَ كُلُّ القيَمِ في عَينيه ويَذهَب إلى "خَمّارَةِ إستارياكوس" الحَقيرةِ الكائنةِ على زاويةِ شارِعِ الحارة، ليَشرَعَ تحتَ وطأةِ السُكرِ بالغِناء "آمان يا لَلِّ يا لَلِّ آمان" ثُمَّ يَضحَك ثُمَّ يَبكي... إلى آخر الفيلم الهابِط المُطَرَّز من خامَةِ سينما الأبيَض والأسوَد.

لم يَفعَل بَطَلُ قَصيدَةِ الفَرّا أي شيءٍ مِن هذا بل ظّلَّ واقِفاً يَنتَظِرُ إلى أن أسدَلَ عليهِ شاعِرُهُ السِتارَ وَقَد تراءى لَهُ مَن تُشبِهُ حبيبَتَهُ الَّتي     “حَلَقَت” لَهُ لفيَظُنُّها هيَ فإذا بِها محبوبةَ غيرِهِ تنتَظَرُ حبيبَها –الذي بدَورِهِ حَلَقَ لَها هيَ الأُخرى- لتِقِفَ ذاتَ موقِفِهِ وتُرَدِّدُ مَعَهُ في نَفسِها: "هل مِن هُنا يَأتي... أم مِن هُنا يأتي".

"هَل مِن هُنا يَأتي.. أم مِن هُنا يَأتي"، لا يَختَلِفُ الحالُ كَثيراً في وَقفَتِنا على رصيفِ مَحَطَّةِ قِطارُ الإصلاحِ الفِكريُّ والثَقافيُّ والدينيُّ الَّذي خَدِرَت أقدامُنا ونحنُ في انتِظارِه، وكُلَّما سَمِعنا صوتَ هديرٍ أو أزيزٍ أو صَفيرٍ التَفَتنا ذاتَ اليَمينِ وذاتَ الشِمالِ مُراهِنٌ بعضَنا بَعضٌ “هل من هُنا يَأتي أم مِن هُنا يَأتي" فَيخسَرُ جَميعُنا الرِهان ونَعودُ جَميعُنا لِنَنتَظِر.

"هَل مِن هُنا يَأتي أم مِن هُنا يَأتي"، على الرَغمِ مِن أنَّ قِطارَ الإصلاحِ المُنتَظَرِ يَسيرُ على سِكَّةٍ ذاتَ اتِجاهٍ واحدٍ وبدَفعٍ أماميٍّ فلا غيار “ريفيرس” يُمكِنُ التَحكُّمُ فيه، إلا أنَّ ما يلوحُ في الأُفُقِ هُوَ دُخانُ قِطارٍ لَم يبرَحَ مَحطَتَهُ الأولى بعد ويَبدو أنَّهُ لن يَبرَحَها عَمَّا قَريب.

"هَل مِن هُنا يأتي.. أم مِن هُنا يَأتي"، ضاقَ المُنتَظِرونَ ذَرعاً فَقَرَّروا أن يَسيروا نَحوَ الدُخان حيثُ المَحَطَةُ الأولى الَّتي يَربِضُ فيها القِطارُ مُنذُ أن وُجِد، اقتَفَوا آثارَ الدُخانِ وساروا حيثُ لا نهايَة لمسيرِهِم... وَصَلوا... نَظَروا... دُهِشوا... القَطارُ ما هوَ إلا عَرَبةُ موتى ليسَ فيها حيٌّ سِوى الدُخان... حاوَلوا العودَة مِن حيثُ أَتَوا... لَم يَستَطيعوا، فَقَد فاتَهُم القِطارُ الماضي نَحوَ الأمامِ... استَسلَموا وأخذَ كُلُّ واحدٍ يَرمُقُ مِقعادَهُ بينَ الموتى... ماتوا وهُم يتساءَلون: "هَل مِن هُنا يَأتي.. أم مِن هُنا يَأتي؟".

هَل حَقّاً لم يُدرِكُ كثيرٌ مِنَّا أنّ الإصلاحَ مِثلَ العِلمِ تماماً كما قالَ عَنهُ الإمامُ مالك: “يؤتَى وَلا يَأتي”، لِكُلِّ مُدَّعٍ أنَّهُ مَعَ الإصلاحِ الدينيّ والثقافيّ والتعليميّ... جالِسٌ يَنتَظِرُ مَقدِمَهُ وعيناهُ نَحوَ الخَلفِ حيثُ الدُخانُ البعيد؛ أهديهِ مَع أسَفي وحُزني أُغنِيَة كوكَب الشَرق أمِ كُلثوم: “أَنا في انتِظارَك مَلّْيت”.

 “هَل مِن هُنا يَأتي.. أم مِن هُنا يَأتي”، إنَّ إصلاحٌ قُوامُهُ وشَرطُهُ عَدَمَ النَظَرِ في ما ورِثناهُ مع الإبقاءِ على سُلطَتِهِ وسَطوَتِهِ في حينِ أنَّهُ هو المُستَهدَفُ بالإصلاح، لعَمْري يُعَدُ تَجسيداً لقَولِ شاعِرِ الخَمرِ والسَمَر أبو نُواس: “فداوِها بالَّتي كانت هيَ الداءُ”؛ إذ ما ذَهَبَ الداءُ ولا انقَلَبَ إلى دواء، ليَظَلَّ السؤالُ قائماً وماضياً ما دامَ حُكُمُ الماضي فينا ماضي: “هَل مِن هُنا يَأتي.. أم مِن هُنا يَأتي”.

مهند العزة: خبير دولي في التحليل القانوني وحقوق الإنسان، وكاتب في حقل الإصلاح الديني.