هل يمكن إعادة عقارب الساعة؟
لم يعد الإعلام لاعبا ثانويا أو هامشيا أو رقما إضافيا في المعادلات السياسية بين الدول، في المشهد المحلي والخارجي. وزمن حجب المعلومات والسيطرة على الرأي العام ولّى إلى غير رجعة، تلك قضية لم تعد بدهية، بل ما قبل البدهية. المفارقة أنّ ثورة الإعلام لم تعد تطرح أسئلة على قدرة أي سلطة سياسية في إحكام قبضتها على حرية انتقال المعلومات وحق التعبير، بل حتى على الإعلام نفسه، إذ أصبح الإعلام الورقي والتقليدي نفسه يسعى لتطوير نفسه وإعادة إنتاج دوره وحضوره، من خلال نوافذ على الإعلام الجديد، المجتمعي، الذي يتيح لجميع الناس أن يصبحوا إعلاميين، من خلال المدونات والفيس بوك والتويتر والمواقع الالكترونية.
السؤال: هل يمكن مواجهة الإعلام بالأساليب التقليدية من الحجب والضغط والإكراه، والعودة إلى الرواية التي يبثها الإعلام الرسمي والإعلام المضبوع؟ الجواب يكمن بسؤال استنكاري: هل يمكن إعادة عقارب الساعة إلى وراء عقود، أي ما قبل ثورة الإعلام والمعلوماتية. لو كانت مواجهة الإعلام ممكنة أو خيارا عقلانيا، لتوجّهت فوراً الإدارة الأميركية لحجب المواقع الالكترونية الجهادية التي تجنّد الأتباع بقدرة فائقة لضرب مصالح غربية وأميركية، وتنطلق من مزوّدات ومحرّكات في الولايات المتّحدة نفسها.
الإدارة الأميركية نفسها، تدرك أنّ هذا الخيار غير مفيد وغير نافع، لأنّ لدى الإعلام اليوم قدرة غير محدودة على التخفي والتورّي والتناسل بأساليب هائلة عبر الفضاء الالكتروني الجديد من ناحية، ولأنّ مصلحة الإدارة الأميركية، من ناحية أخرى، أن تبقى على اطلاع ومراقبة للحراك على الأرض والحوارات الدائرة والمزاج الذي تسير عليه هذه الجماعات، لتطوّر أدوات القياس والاستشعار.
الخيار العقلاني السياسي الناضج، بعيد المدى، لا يتمثل بالسير عكس اتجاه الوقت، بل في تطوير الإعلام الجيّد. وتحرص الحكومات، التي تمتلك الإدراك الزمني والسياسي العميق، إلى خلق مؤسسات إعلامية كفؤة، مهنية، قادرة على التأثير على الرأي العام وتغييره، وتمتلك قدرا من المصداقية والمعلوماتية وسقف الحرية ما يجعلها خيارا للمواطنين وليس العكس.
ربما تكون التجربة المصرية ناجعة بدرجة ما في هذا المجال، عندما "أغرقت" السوق الإعلامية المصرية بفضائيات خاصة جديدة تعنى بالشأن المحلي، وبالقضايا التي تهم المواطنين، فقد استطاعت هذه القنوات استعادة المشاهدين إلى الإعلام المحلي، وطرحت برامج حوارية نقدية بسقف حرية عال ملأ الفراغ الإعلامي، لكن مع ضمانة أنه يعمل ضمن إطار المصلحة الوطنية المصرية.
لا يمكن لأي دولة أن تواجه العالم اليوم بلا مؤسسات إعلامية مهنية ناضجة تمتلك الكفاءة والمهنية، لأنّها تحكم على صورتها السياسية بالإعدام، وتضع الرأي العام المحلي والخارجي في يد مؤسسات إعلامية أخرى خارجية، وترهن مصالحها وأمنها للآخرين!
ثمة إعلام جيّد وآخر رديء، الحل يكمن بتطوير الجيّد وتحسينه وتعزيزه