هل يتفهم الشارع القرارات الحكومية؟
بعد تقليب للخيارات والبدائل، واختبار للتداعيات المتوقعة، رسا القرار الحكومي الوشيك على رفع الضريبة على البنزين (بنسب معينة تصل إلى 20 %)، وهي الارتفاعات التي ستصيب أيضا السجائر والمشروبات الروحية، وربما بعض السلع الاستهلاكية الأخرى.
التفكير في أروقة "المطبخ الاقتصادي"، خلال الأشهر الماضية، كان يقارن بين خيارين رئيسين؛ الأول رفع الدعم عن أسطوانة الغاز (وهي سلعة ضرورية ورئيسة)، وله دلالاته الرمزية والسياسية غير الشعبية على الإطلاق، والثاني هو رفع الضرائب على سلع، لا تمس الطبقة الفقيرة والوسطى مباشرة، أو تُعدّ ثانوية، كالبنزين والسجائر وغيرها.
قرار رفع الضرائب، وفقاً لذرائع الحكومة، ضروري لمعالجة التشوهات في الموازنة التي ورثتها عن الحكومة السابقة، والتي قامت على فرضية رفع الدعم عن أسطوانة الغاز، وتقليص غير منطقي ولا واقعي للنفقات عن وزارات ومؤسسات حيوية، مثل التربية والتعليم وصندوق المعونة الوطنية.
ورغم أنّ الحكومة حاولت وبصورة مكثّفة التمهيد لرفع الضرائب والأسعار، إلى درجة يرى محللون أنّها بالغت في تصوير "الأزمة المالية"، فإنّ توقيت القرار يبدو مفاجئا، إذ يأتي بعد تأكيدات عديدة أنّ المؤشرات الاقتصادية خلال النصف الأول من العام الحالي، كانت مبشّرة جيّدة، وأنّ هنالك وعودا بمنح مالية خارجية ستحدّ من العجز في الموازنة.
المشكلة الحقيقية تكمن في أنه لا توجد أية ضمانات بأنّ الارتفاع على هذه السلع لن يؤدي إلى دورة كاملة من الارتفاعات تصيب مختلف السلع، حتى تصل نيرانها إلى المواطن الفقير، فتزيد من عجزه على التكيف مع الأوضاع الحالية، وتمسّ بصورة أساسية الطبقة الوسطى وتضاعف من حجم الضغوطات الاقتصادية عليها.متوالية الارتفاعات" مجرّبة، سابقاً، ولم تشفع النداءات والبدائل الحكومية (الأسواق الشعبية، تعزيز المؤسسة المدنية، الاجتماعات وتقبيل اللحى) في وقفها، وظهر "العجز" الحكومي واضحا في مواجهة القطاع الخاص.
بالطبع، النظرية التي يجمع عليها أعضاء الفريق الاقتصادي أنّ "سياسة الدعم هي في الأصل غير صحيّة، وتمثّل تشوّهاً بنيويا في الموازنة". وهي نظرية قد تكون مقبولة، في دول تمرّ بمراحل تطور واضحة، ولديها سياسات اقتصادية ثابتة، ومعادلة اجتماعية مستقرة.
لكن تطبيق هذه النظرية محليّا يتطلب، ابتداء، إعادة هيكلة في البرنامج الاقتصادي، ومعالجة جوانب الخلل فيه، وتحديدا الاجتماعية التي تمسّ الطبقتين الوسطى والفقيرة. ورغم أنّنا سمعنا كلاما حكوميا و"دعايات" عديدة في هذا الشأن، إلا أنّ المسار الاقتصادي ما يزال يسير في طريق معاكس لقدرة شريحة واسعة من المجتمع على التكيّف معه.
موازنة الدولة تقوم على الضرائب والرسوم، هذا صحيح، لكن بالتدريج، وبضمان ومراعاة تمكين الناس جميعهم من الدخول في الدورة الاقتصادية، عبر فلسفة وطنية محكمة، يضعها خبراء اقتصاديون موثوق بحكمتهم ومصداقيتهم، تنهض بالجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية معا.
مرّة أخرى، وعلى أعتاب الانتخابات النيابية لن تجد القرارات الحكومية قبولا شعبيا، وستحصد المعارضة "الغضب الشعبي" في صناديق الاقتراع بعد أشهر قليلة.
"