عادة ما تكون الإرادة سبباً رئيساً لنجاح الفعل، وإشارة للجدية في الوصول إليه، لذلك يبدو السؤال عن مدى الصدق في تحقيق التطوير في التعليم ملحاً جداً وأساسياً، إذ يبدو لنا ولكثير من المهتمين أن قصة التطوير ما هي إلا واحدة من القصص التي يتعامل معها المسؤولون على أنها من باب المستحيلات، مثل العنقاء والغول والخل الوفي، وأن لديهم القناعة إما عن قصد أو عن غير قصد بأن التطوير لا يمكن حصوله في ظل ظروف سياسية واجتماعية واقتصادية غير مؤهلة للقفز خطوة واحدة نحو التغيير والتجديد.
على المستوى السياسي لا يوجد إرادة كاملة جادة، وهناك تخبط في الرؤية واختلاف في الأهداف والغايات، وربما تتخوّف السلطات من تغيير جذري في التعليم قد يؤدي إلى وعي تكون نتيجته ليس لصالحها، فالتعليم الجيد القائم على الإبداع والتفكير يعني عدم قبول السير مع القطيع ووضع الرأس بين الرؤوس، ويعني طرح الأسئلة حول السلطة ومفهومها وعلاقتها مع الناس.
أما على المستوى الاجتماعي فهناك تعقيدات كبيرة، بسبب عدم وعي الأهل بشكل عام لمتطلبات أبنائهم في المستقبل، ومدى مناسبة ما يُقدم لهم للمهارات التي يتطلبها التطور الحاصل في العالم، ومن جهة أخرى هناك تيارات وأحزاب تنفخ في نار الحديث عن الدين والتراث والتاريخ، بوصفها مقدسات لا يجوز المساس بها أو مساءلتها أو طرح الأسئلة حولها، وهي تعمل في العادة على تجييش الناس للعمل ضد أي حديث عن التطوير، وأي دعوة لذلك تتهم بالتآمر على الدين والتاريخ والتراث.
وتتناسى هذه الأحزاب والتيارات أن عملية التطوير لا تعني كتاب اللغة العربية والتربية الإسلامية فقط، بل هي تطوير البنية التحتية للمدارس، وتحسين وضع المعلم علمياً ومادياً، وتوفير بيئة مدرسية مناسبة، وتطوير أساليب التدريس لتحث على الابداع والتفكير، وتطوير الكتب المدرسية كلها: رياضيات وفيزياء وكيمياء وأحياء وجغرافيا وتاريخ وفن ولغات ورياضة ومهني.
ويبدو الوضع الاقتصادي أيضاً أحد العوائق المهمة، فميزانيات وزارة التربية لا يمكن أن تحقق الهدف المطلوب من التطوير، لأن ذلك يتطلب إنفاق مبالغ مالية، ولا يوجد لدى الدولة رؤية بأهمية إنفاقها في هذا المجال، إذ الهاجس أصبح أمنياً، وصار الجيش والأمن من أهم أولويات الإنفاق في الميزانيات.
لكل هذه الأسباب تبدو معالجات وزارة التربية شكلية وسطحية، وربما عبثية في كثير من الحالات، فالنوايا الطيبة غير كافية في تغيير منهج ونمط تفكير متوارث منذ أجيال، وتحرسه جيوش من التفكير التقليدي المحافظ، الذي يرفض طرح الأسئلة الوجودية، ويرفض حتى التفكير في الإجابة، في مجتمع تتوسع فيه دائرة المقدس لتضيق الخناق على كل تفكير قد يدعو إلى الحرية.
يحتاج التطوير خطة طويلة المدى، ولو كان هناك إرادة حقيقية بالفعل لوجدنا حلولاً عملية قد تضيء بداية النفق، ومن ذلك وضع خطة عشرية مثلاً، تبدأ بتأهيل الصف الرابع الأساسي، من خلال المناهج وطرق التدريس وتأهيل المعلمين والصفوف، والتركيز في العام الأول على هذا الصف، برؤية جديدة، وبذلك يمكن توفير مستلزمات صف واحد بدل التصدي لعملية ضخمة في كل المراحل ولا نستطيع تحقيقها، إذ يمكن تأهيل المعلمين الذين يدرّسون صفاً واحداً خلال عام واحد، ولا يمكن تأهيل كلّ المعلمين دفعة واحدة.
وكذلك الحال بالنسبة للغرف الصفية والمناهج، وفي العام الذي يليه نبدأ بالصف الخامس، حيث يكون طلاب الرابع هم الذين ترفّعوا إليه، ونركز عليهم في الخامس بعملية التطوير، ثم في العام الذي يليه ننتقل للصف السادس، وبهذا التراكم خلال عشر سنوات نكون قد وصلنا إلى الصف الثاني عشر، مع الأخذ بعين الاعتبار العمل على تطوير الصفوف الثلاثة الأولى.
هذا مقترح من مقترحات عديدة قد تكون عملية وواقعية لو كان هناك إرادة فعلية في تطوير التعليم بشكل حقيقي، بعيدا عن تجاذبات المجموعات والأحزاب والجماعات التي يرى كل منها التطوير من منظور أيدولوجي ضيق، ومن باب المناكفات والبحث عن الغلبة والفوز، على حساب الأجيال التي سنتركها تصارع ضعف مهاراتها وقلة حيلتها في عالم يتغير نحو تنافس فكري وإبداعي، لن يكون فيه مكان لمن يحبو نحو المعرفة على أرجل أربع.
يوسف ربابعة: كاتب وباحث وأستاذ جامعي. له مجموعة أبحاث في مجال التعليم والفكر والسياسة، ومنها: تجديد الفكر الديني، الشعر والقرآن.