نهاية حقبة

نهاية حقبة
الرابط المختصر

بالرغم مما نشهده اليوم من تغيرات مناخية كبرى، لا يبدو أن أحداً يودّ معرفة أكثر مما يعنيه ذلك بالنسبة لحالة الطقس اليومية، وما يترتب عليها من تغييرات في مسار "مشاويرنا" اليومية، وقيمة فواتيرنا الشهرية!

لا يثير هذا الموضوع، حتى هذه اللحظة على الأقل، من الخوف والتأهب ما يجلبه الحديث حول التغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تشهدها المنطقة والعالم أجمع، رغم أن التغيرات الكبرى التي يقبل عليها عالمنا، في العقود القريبة المقبلة، بحسب تنبوءات علماء المناخ، هي تغيرات كارثية، في حال لم تتجه نشاطاتنا البشرية إلى المسار الصحيح في القريب العاجل.

يشكك البعض بحقيقة وحجم هذه التغيرات، بينما يجمع 97% من علماء المناخ حول العالم، بحسب وكالة الفضاء الأمريكية ناسا، على أن النشاطات البشرية هي المتسبب الرئيسي بارتفاع درجة حرارة الأرض، الأمر الذي كان له الأثر البالغ في التغيرات المناخية الأخيرة التي شهدناها خلال الثلاثين عاماً الماضية على وجه التحديد.

قوبل هذا الإجماع العلمي حول خطورة التغيرات المناخية باتفاق مماثل لدى صناع القرار السياسي في مؤتمر الأمم المتحدة الأخير حول المناخ، الذي أنهى جلساته في كانون الأول الماضي في العاصمة الفرنسية، باريس، حيث اتفقت دول العالم، وبإجماع منقطع النظير، على تقليل انبعاثاتها من غازات الدفيئة إلى الصفر بحلول عام 2030، ويتوقع أن يضمن هذا الإجراء عدم رفع درجة حرارة الأرض أكثر من درجتين مئويتين، وتجنيبنا كارثة بيئية كبرى.

لم يمر هذا الاتفاق من دون الإشارة إلى المسؤولية التاريخية التي تتحملها الدول الأغنى، كونها استنفذت حصتها من الانبعاثاث الضارة شر استنزاف منذ الثورة الصناعية وحتى هذه اللحظة، وكانت المتسبب الرئيسي فيما نعاني منه اليوم من مشاكل بيئية كبرى، الأمر الذي استدعى أن تتحمل هذه الدول المسؤولية الأكبر في تقليل انبعاثاتها، وأن تلتزم بتمويل الدول الفقيرة من أجل مساعدتها في الانتقال الميسر نحو مصادر الطاقة البديلة، من غير أن تتحمل تلك الأخيرة، فاتورة باهظة الثمن جزاء تأخرها عن اللحاق بالركب.

تستدعي تغيرات المناخ وقفة للتأمل، تتجاوز الجانب العلمي أو حتى السياسي، إذ أعادت للسطح نقاشات فلسفية كبرى، وانتقاداً للمشروعية التاريخية التي نصبت الأنسان الرتبة الأعلى على هذا الكوكب، وحصرت قيمة الأرض ومواردها بالجانب النفعي البحت الذي لا يرى فيهما سوى مدخلات في عالم المال والتنمية، وأباح للإنسان، تباعاَ، الاستهلاك العشوائي والجائر عبر تاريخه الحديث، ما استدعى تحرك الكنيسة، بشكل غير مسبوق، في أيار من العام الماضي، عندما دعى البابا فرانسيس من خلال المنشور البابوي الأخير إلى إصلاح هذه العلاقة المشوهة التي ربطت الانسان ببيئته منذ بداية الثورة الصناعية وحتى اللحظة.

وقد أثارت دراسة أمريكية حديثة جدلاً واسعاً، حيث أكدت على أن موجة الجفاف الأسوأ في تاريخ سوريا، التي امتدت بين الأعوام 2006-2011، أسهمت بشكل كبير في إشعال الأزمة، فقد عانت القرى والمناطق الزراعية في المناطق الشمالية الشرقية لسوريا، من نفوق عدد كبير من المواشي، وارتفاع أسعار الحبوب بشكل مضاعف، وازدياد الأمراض المرتبطة بالتغذية، خصوصاً عند الأطفال، ما أدى إلى نزوح ما لا يقلّ عن 1.5 مليون مواطن من تلك المناطق إلى المدن.

لا يتركنا هذا التقييم الموضوعي للأمر، وما ينطوي عليه من مقامرة بمستقبلنا البشري، إلا أمام خيار واحد، وهو الانتقال من حقبة الوقود الأحفوري إلى الحقبة "النظيفة" كما يحلو للكثيرين تسميتها، وهذا يتطلب تضحيات كبرى، أبرزها الاستغناء عن حصة كبيرة من مصادر النفط والفحم، وإبقائها تحت سطح الأرض، دون مساس! وهو أمر لا يبدو جذاباً البتة بالنسبة للكثيرين! لكنه الإجراء الأكثر استدامة والأكثر جدوى اقتصادياً على المدى المنظور، إذ أن تكلفة الاستثمار في الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، قد شهدت انخفاضاً كبيراً في السنوات الاخيرة الماضية، ويتوقع أن تواصل انخفاضاً أكبر في السنوات القريبة المقبلة.

ألمانيا قدّمت النموذج الأبرز، عندما تمكنت في أحد صباحات نيسان من العام 2014 من إنتاج 74% من طاقتها الكهربائية، بالاعتماد على طاقتي الشمس الرياح مجتمعتين.

أما محلياً، وانسجاماً مع الإستراتيجية الوطنية للطاقة التي تستهدف زيادة مساهمة الطاقة المتجددة بنسبة %10 من مجمل خليط الطاقة حتى العام 2020 فقد تم تدشين شركة "مشروع رياح الأردن للطاقة المتجددة" (JWPC) في كانون الأول من العام الماضي 2015. يضم هذا المشروع ائتلافاً دولياً لأبرز المؤسسات الاستثمارية والتمويلية في العالم، ويعد الأول من نوعه في مجال الشراكة بين القطاعين العام والخاص في مجال الطاقة المتجددة. ويتوقع أن يوفر المشروع على خزينة الدولة نحو 50 مليون دولار سنوياً من كلفة إنتاج الكهرباء بالأساليب التقليدية، علما بأن الأردن يستورد نحو 96% من احتياجاته من الطاقة، وهذا يستهلك أكثر من 20% من الناتج الاجمالي للدولة.

هذه المشاريع "النظيفة" هي أعظم ما يمكننا أن نعول عليه في هذه المرحلة الحرجة من تاريخ البشرية والكوكب، ومعها ستكون بداية النهاية لعصر الوقود الأحفوري مهما استماتت قطاعات كبرى في إبقاء الوضع على ما هو عليه.

علينا أن نعلم جيداً، قبل فوات الأوان، أننا الجيل الأول الذي يشهد بالفعل آثار التغير المناخي الأولى، والجيل الأخير الذي ستكون لديه الفرصة لأن ينجو منها.

وسماء الحسيني خبيرة سموم في قطاع البتروكيميائيات في هولندا، وباحثة في التحركات المدنية الخلاقة التي تعمل نحو عالم أفضل.

أضف تعليقك