نظريّة الألعاب
لقي جون ناش (1928- 2015) وزوجته إليسيا مصرعهما في حادث سير أحمق! ميتة لا تليق إطلاقاً بصاحب العقل الجميل، وبالمرأة التي وقفت معه، حتّى انتصر على مرض الفصام الذي ألمّ به منذ عام 1958، وبقي يتعايش مع عقابيله في بيئة أكاديميّة مشروطة، يؤكّد فيها أنّ بين العبقريّة والجنون نصف شعرة. “العقل الجميل” هو اسم الفيلم الذي يحكي سيرة حياته، وقد لعب بطولته النجم الهوليوديّ راسل كرو.
تخصّص ناش في الرياضيّات، وحاز على الدكتوراه عن أطروحته لتطوير نظريّة الألعاب، وهي النظريّة التي تقوم عليها خطوات إجرائيّة للتوصّل إلى أفضل حركة يمكن القيام بها في ظلّ الظروف القائمة، للحصول على النتيجة المرجوّة. وهذه النظريّة هي الأساس المجرّد لألعاب من مثل الشطرنج، والداما، والبوكر، والإكس أو، وغيرها. تعدّ هذه الألعاب، تمرينات مصغّرة لممارسات أكثر اتساعاً وتأثيراً في الحياة، ذلك أنّ عالم الاقتصاد، والعلوم العسكريّة، وفنّ السياسة، يقوم عليها، وكذلك علاقات الحبّ: أن تقوم بأفضل نقلة، في ظلّ حساب مجموعة إمكانيّات نقلات اللاّعب الآخر، مع توقّع أكثرها احتماليّة للحدوث. إنّ ذلك يعتمد على الخبرة في أكثره، وفي أقلّه على الحظّ، مادام هناك أصول للّعب، أو قواعد يحترمها الطرفان. تفلت السياسة اليوم من نظريّة الألعاب من حيث شرط احترام القواعد، فالسياسة في حالة من الفوضى والغوغائيّة التي لا تعترف بالأصول، إلى حدّ القرصنة، والخذلان الإنسانيّ. نظريّة اللعاب تعوّل على الخبرة، لكنّ اختراعها يرجع إلى عبقريّات فرديّة، تقوم على الكشف والإلهام.
يحذّر الفلاسفة الرواقيّون من إيذاء العقل، وعلى رأسهم إبكتيتيوس (القرن الأوّل م- القرن الثاني م)، الذي يقول: "عندما تمشي فأنت تأخذ حذرك من أن تطأ مسماراً، أو أن تلوي قدمك، فلتأخذ حذراً مماثلاً من أن تؤذي عقلك الموجِّه.". إنّ نظريّة العبقريّة التي تقول بالإلهام، تستهدف العقل ولا تقف ضدّه، ذلك أنّ الإلهام هو الطاقة التي تشرق في عقول محدّدة وتسمّى (الباثيوس)، وتشكّل كلّ من المعرفة والخبرة حاضنة مواتية لها. يمكن اعتبار إبكتيتيوس العقل الأوّل الذي أطلق نظريّة الألعاب، إذ قال في مؤلّفه الشهير (المُختَصر): "الحياة لعبة نرد: الأرقام ليست في قدرتنا، أمّا استخدام الأرقام فهو في قدرتنا، وعلينا من ثمّ أن نؤدي اللّعب بمهارة وتدقيق".
أينشتاين نفسه استسلم لفكرة عبقريّته التي تمّت أسطرتها، فتنازل عن دماغه، ليتنازع أكثر من مشفى على قراءة الموجات الكهربائيّة الذي يصدرها هذا الدماغ وقت التفكير بثيمة محدّدة كالنسبيّة، وكأنّ الدماغ آلة تنتج الأفكار، بعيداً عن العاطفة والانفعال، كما تنتج الطاحونة الطحين، ولا يعبّر عن الموتفي هذه الحالة بالفقد، أو بالحزن، أو الرثاء العائليّ، بل بـعبارة محدّدة تقول: "لقد توقّف أقوى الأدمغة عن التفكير". لقد تمّت معالجة عقل أينشتاين في كتاب رولان بارت (1915- 1980)، الموسوم بعنوان “أسطوريّات”، والذي يدور حول صناعة أساطير الحياة اليوميّة عبر علم العلامات (السيميولوجيا)، أو عبر دلالة الكلام، فالحياة عبارة عن علامات، أو دوال على مدلولات: الصور، والملصقات، والممارسات اليوميّة... كلّها تحيل إلى معانٍ، والمجتمعات تفصح عن نفسها من خلال العلامات التي ترسلها.
لا ترتهن الأسطورة إلى الماضي، إذ يؤسطر كلّ مجتمع أشياءه اليوميّة، ويحوّلها إلى منظومة لغويّة مختارة ومحدّدة، نسمّيها (الكلام). بارت يؤكّد على أنّ الأساطير أحداث عاديّة يتمّ تصنيعها، لذا علينا أن نصدّق أنّ كلّ شيء ليس بذي بالٍ، أو عرضة للسخرية أو الاستنكار هو شرط للحقيقة: القتل الذي يحاصرنا، والتهديدات الموجّه إلينا بزوال دول عربيّة من على الخريطة، وتحوّل كيانات غاصبة إلى دول، أو خلافات، أو دويلات... ذلك كلّه سيصير في لحظة ما حقيقة، إذا ما تمّ تكريس صياغته اللغويّة! يجب التوقّف عن تحويل الأفكار المؤذية إلى لغة، حتّى لو كان ذلك بنيّة التهكّم، وإذا ما قرأنا المشهد الإعلاميّ، فسنتوصّل إلى أنّ دوره الأوحد اليوم هو صناعة الأساطير بتكريس الوقائع والإصرار عليها لغويّاً، وقد استطاع بذلك صناعة الحروب، والنزاعات، والتحالفات. الإعلام يعمل وفاقاً لنظريّة الألعاب أيضاً، إذ يقوم بأفضل نقلة لتحدث أقوى ردّ فعل وأوسعه. مات رولان بارت ميتة غير لائقة أيضاً، صدمته شاحنة صغيرة وهو في طريقه إلى محاضراته في الجامعة!
الأديان قدّست العقل أيضاً، إذ ورد في الحديث الشريف أنّ الله تعالى خلق العقل بعد القلم، والدواة، وقال: "ما خلقتُ خلقاً أعجب إليّ منك، وعزّتي وجلالي لأكملنّك فيمن أحببت، ولأنقصنّك فيمن أبغضت"، ومع ذلك يتمّ إيذاء العقول العربيّة بممارسات قصديّة في غالبها: بتغييب الفلسفة، وتكريس اللّغو السياسيّ، والاستسلام لفخاخ الإعلام، وتجاهل تعليم نقد المعلومة. ليست الفلسفة الإجرائيّة سوى توليفة من التعليمات لمقاومة السلطات المستبدّة، ومنها الإعلام، والنظم التعليميّة، والحبّ المتسلّط الذي يقهر، ويحوّل النساء إلى موضوعات للتملّق بوساطة الجسد، بدلاً من أن يظهر قيمتهنّ الحقّة كما يقول إبكتيتيوس، وهي دماثة الخلق، والتواضع، والحكمة. ستكون معايدتي في هذا العيد لبضع نساء يفكّرن بالحكمة، كلّ عام وأنتنّ بخير!
- د. شهلا العجيلي: كاتبة، وروائيّة، وأستاذة الأدب العربيّ الحديث في الجامعة الأميركيّة في مادبا. لها في الرواية “عين الهرّ” الحائزة على جائزة الدولة التشجيعية 2009، و"سجّاد عجميّ".