"نظام التصويت" الذي يؤسِّس لمجتمع ديمقراطي

"نظام التصويت" الذي يؤسِّس لمجتمع ديمقراطي
الرابط المختصر

في "نظام التصويت"، يَكْمُن بعضٌ من أهمِّ أسباب الأزمة في الحياة الديمقراطية الناشئة في بلاد "الربيع العربي"؛ ولا بدَّ من التأسيس لـ "نظام تصويت جديد"، وجيِّد بمقياس ما يمكن تسميته "الديمقراطية الانتقالية"، والتي قد تستغرق زمناً طويلاً.

"الصوت" إنَّما هو "صوت إرادة صاحبه"؛ لكنَّ ما يريده الناخِب، أو المُصوِّت، في مجتمعنا، الذي فيه من "أنماط الولاء" ما يتنافى مع "الجوهري" من قِيَم ومبادئ الحياة الديمقراطية، يعتريه كثيرٌ من التناقض؛ فإرادته متشظية، متشقِّقة، متفرِّقة، متشتِّتة.

إنَّ "نظام الصوت الواحد"، أيْ نظام صوت واحد (لا غير) لكل ناخِب، لا يَصْلُح، في مجتمعنا، للتأسيس لحياة ديمقراطية جديدة وجيِّدة؛ فهذا النظام يأتي بـ "تمثيل" يتضاءل فيه كثيراً "التمثيل العام"، أو "التمثيل السياسي" للشعب، ويجعل "الانتخاب" مَفْسَدةً لديمقراطية العلاقة بين الحاكم والمحكوم.

وإنِّي لأرى في نظام "الصوتين"، أو "الصوت المتعدِّد"، تَوافُقَاً أكثر مع القِيَم والمبادئ الديمقراطية، ومع قوى الدَّفْع في اتِّجاه "الدولة المدنية"؛ ففي مجتمعنا يَكْثُر التعصُّب لـ "الجماعة التي صلة الفرد بها من النوع الذي يتنافى ومقوِّمات المجتمع الديمقراطي، والدولة المدنية"، كالعشيرة والقبيلة والطائفة الدِّينية؛ وينبغي لنا ألاَّ نَضْرِب صفحاً، في سعينا إلى التأسيس لمجتمع ديمقراطي، ودولة مدنية، عن هذا "الواقع الكريه (من وجهة نظر ديمقراطية وحضارية)"، وعمَّا يُثْبِته الواقع، في استمرار، ألا وهو أنَّ الولاء الأوَّل (والصوت الأوَّل من ثمَّ) للفرد، في مجتمعنا، وفي ساعة الانتخاب على وجه الخصوص، هو للعشيرة والقبيلة والطائفة (الدِّينية).

والأسوأ من ذلك، نراه، على وجه الخصوص، في "الأزمات"، و"أوقات الضيق والشِّدة"؛ فإنَّ كثيراً من المثقَّفين الديمقراطيين والليبراليين واليساريين والقوميين والعلمانيين، المتسامين، في الأوقات العادية، عن تلك الأنماط من الولاء والانحياز، يُسْرِعون في الارتداد إلى "البدائي" من الولاء والانحياز؛ فالكامِن من وعيهم يَظْهَر، والظَّاهِر يَكْمُن!

لِيَكُنْ "الصوت الأوَّل" للناخب (المُصوِّت، المُقْتَرِع) لـ "مُرشَّح الغريزة (الغريزة العشائرية أو القبلية أو الطائفية)"، وَلْنَتَّخِذْ من "الصوت الثاني (أو الثالث)" مداراً لـ "اللعبة الديمقراطية"؛ فإنَّ في "نتائج الصوت الثاني (أو الثالث)" ما يشبه "التسوية (Compromise)" بين "أصحاب الصوت الأوَّل"؛ وفي مجتمعنا لا يمكن أنْ يأتي "التمثيل الذي فيه يرتفع منسوب السياسة والديمقراطية" إلاَّ من هذه الطريق، أيْ طريق "التسوية (العفوية)"، الكامنة ملامحها في نتائج "الصوت الثاني (أو الثالث)".

في يوم الاقتراع، أَذْهَب إلى صندوق الاقتراع، فأعْطي "صوتي الأوَّل" لـ "مرشَّح الغريزة"، أيْ لـ "مرشَّحي العشائري أو القبلي أو الطائفي"؛ ثُمَّ أعطي "صوتي الثاني (الإلزامي)" لـ "مرشَّح الوعي"، أي لـ "الجماعة السياسية المنظَّمة" التي تنادي بما يصلح للتأسيس لـ "مجتمع ديمقراطي"، و"دولة مدنية". إنَّ الناخِب، في مجتمعنا، "إرادتان (إنْ لم يكن أكثر)"؛ فَلْنُهيِّئ لـ "الإرادة الأخرى (الكامنة)" أسباب الظهور عَبْر نظام "الصوتين"، أو "الصوت المتعدِّد".

الناخِب، وبصفة كونه مسْتَخْذياً خاضعاً لـ "مجتمعه الضيِّق"، مجتمع العشيرة والقبيلة والطائفة، يريد أنْ يرى ممثِّلاً لـ "غريزته" هذه في البرلمان؛ ولسوف يظل "النظام (والقانون) الانتخابي" في أزمة، تَلِد أزمات من غير جنسها، إذا لم يُرْضِ له هذه "الغريزة".

لكنَّ هذا الناخِب يَعْلَم أنَّه ينتمي إلى مجتمع أوسع، وأنَّه مواطِن في دولة لا بدَّ لها من أنْ تكون في ماهيتها وخواصها وملامحها ثمرة ونُتاج "تسوية (عفوية)" بين كل "الجماعات البدائية"؛ وهذه "التسوية" لن يأتي بها أبداً نظام "الصوت الواحد".

إنَّنا نريد "نظام تصويت" يسمح لنا بأنْ نَسْتَخْرِج منه ما يعكس "الإرادة المشتركة" للناخبين جميعاً، أو في أكثريتهم؛ فالناخِب زَيْد هو "جملة من الولاءات والانتماءات والهويات" التي تشبه طبقات الهرم؛ وعلينا، من ثمَّ، أنْ نُميِّز ونُفْرِز "درجات إرادته الانتخابية"، فَنَجْعَل له صوتاً لولائه الأوَّل (العشائري مثلاً) وصوتاً لولائه الثاني (الطائفي الدِّيني مثلاً) وصوتاً لولائه الثالث، أو الأخير، والذي هو الأقرب إلى تخوم "المجتمع الديمقراطي" و"الدولة المدنية"؛ وفي هذه "الهرمية من الولاءات والانتماءات والهويات"، وفي "التصويت"، من ثمَّ، يتدرَّج الناخب في الولاء والانتماء والهوية، وصولاً إلى الأكبر والأوسع والأعم والأشمل؛ فـ "الصعود" إلى "المجتمع الديمقراطي"، و"الدولة المدنية"، هو عينه "نزول الهرم" من "قِمَّتِه الضيِّقة" إلى "قاعدته الواسعة".

إنَّ "خياره (أو صوته) الثالث (أو الأخير)" هو الذي يشترك فيه مع غالبية الناخبين، وهو من ثمَّ "التسوية (العفوية)"، التي من حجارها نبتني "المجتمع الديمقراطي"، و"الدولة المدنية"؛ فهذه "الدولة"، وذاك "المجتمع"، لن يُولدا أبداً، في مجتمعنا، من رَحْم "الخيار (أو الصوت) الأوَّل" للناخِب. وحتى يتصالح (أو لا يتخاصم) كل "مجتمع ضيِّق" مع "المجتمع الواسع"، ومع "دولة المواطَنة"، لا بدَّ من أنْ يَكْفَل القانون (والدستور) لكل "مجتمع ضيِّق (مهما كان نوعه)" حقُّه في أنْ يُنظِّم ويُدير بنفسه شؤونه وأموره الخاصة (أيْ التي بمنأى عن السياسة والتسييس). إنَّ كل جماعة، مهما كان نوعها أو حجمها، يحقُّ لها أنْ تُنظِّم نفسها بنفسها، وأنْ تتولى إدارة شؤونها الخاصة بنفسها، وأنْ تدافع وتحامي عن مصالحها وحقوقها بكل الوسائل والأدوات والأساليب الشرعية، أيْ التي لها سَنَد في القانون (والدستور).

نظام التصويت الديمقراطي، الذي يحتاج إليه مجتمعنا، إنَّما هو الذي يعطي من النتائج (أيْ من النتائج التصويتية) ما يَكْمُن فيها "الخيار المشتَرَك" لغالبية المُصوِّتين؛ وهذا الخيار هو الذي منه نبتني "المجتمع الديمقراطي" و"الدولة المدنية"؛ فالناخِب كالمجتمع هَرَمٌ من الولاءات والانتماءات والهويات؛ فَلْنَدَعها جميعاً تتفتَّح.

أضف تعليقك