مراثي القومية والسلطة والفكرة والقوة

الرابط المختصر

تبدو مقالتي هذه مرثاة هادئة للتجربة القومية العربية التي جاءت كوريث عروبي لفكرة الجامعة الاسلامية التي برزت في أطروحات الفكر النهضوي العربي أواخر القرن التاسع عشر واوائل القرن العشرين، هناك في معظم العواصم العربية التاريخية برزت الفكرة المضادة لـ "الجامعة الاسلامية" لتحل محلها فكرة الانبعاث القومي العربي وفقا للنموذج الغربي الذي استولد الحركات الفومية الغربية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر ليدفنها قبل ان يصل القرن العشرين الى ربعه الأول.
مدرسة القوميين العرب كانت الفكرة الأكثر نبلا وتأثيرا في الفكر القومي العربي، وبدت الأطروحات الأولى للقومية العربية تأخذ مكانتها في التهج الثوري بعد أن استقرت منطلقاتها الفكرية والسياسية ومداميكها الأيديولوجية لتدخل مرحلة اختبار تلك الأفكار، وقياس مدى صلابتها، وقابليتها للحياة وللمجالدة مع الغرب حين كان يهيمن هيمنة شبه مطلقة على معظم الأقطار العربية.


بلغت حكاية القومية العربية أوجها في زمان الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، الذي لم يلتفت كثيرا للفكر القومي الصادر من المشرق العربي بقدر اعتماده على الإطار العام للفكرة القومية الصادرة من التجربة الغربية، ومع بعض التحويرات والتهذيبات، أصبح لعبد الناصر مدرسته الفكرية القومية التي تلتقي بالضرورة مع نتاج الفكر القومي المشرقي، وقد عبر ذلك عن نفسه في الوحدة المصرية السورية التي انتهت إلى الفشل بذات السرعة التي وصلت اليها تلك الوحدة.
حتى هذه اللحظة لم أغير عقيدتي المتمثلة في أن أي فكرة مهما كانت قوتها وموضوعها يمكنها أن تحيا وتتسع طالما وجدت مناخا سياسيا مؤاتيا ينتج عنه نظام سياسي يحمل تلك الفكرة ويتبناها ويدافع عنها. وبغير ذلك فان اقوى وأنبل الأفكار ستموت ما لم تجد قوة سياسية تؤازرها قوة عسكرية تحملها وتدافع عنها.
والتاريخ هنا يمنحنا عشرات الشواهد، ففكر ماركس وانجلز كان سيذهب الى سجلات التاريخ والنسيان لو لم يجد من يحمله ويتبناه كأيديولوجيا"الاتحاد السوفييتي ومنظومة الدول الاشتراكية مثلا"، وكذلك الحال بالنسبة للقومية العربية التي لو لم تجد نظاما سياسيا يحميها بقوة العسكر لما اتسعت وعاشت على نحو التجربة الناصرية، ثم تجربة البعثين في العراق وسوريا، وكذلك الحال بالنسبة للأيديولوجيا الدينية، فلولا وجود دولة مثل ايران تتبنى المذهب الشيعي لما كان للفكر الشيعي تلك القوة السياسية والطائفية الضاغطة هذا الاوان على الجغرافيا السياسية للعالم العربي، ولظلت المدرسة الشيعية مجرد طائفة دينية لها معتقداتها وشعائرها، يقابلها بالطبع المملكة العربية السعودية التي تتبنى الفكر الوهابي نتيجة التحالف السياسي التاريخي بين آل سعود ومحمد بن عبد الوهاب، فلولا هذا التحالف لما سمعنا بالمطلق بعبد الوهاب، ولربما لم نقرأ له كتابا واحدا من مجاميعه التكفيرية التحريفية.


في هذه العجالة ثمة مسكوت عنه يتوجب النبش في خفاياه يتمثل في معادلة السلطة والفكرة والقوة، وعلى مدار التاريخ فان الأفكار حتى تنتشر في الناس تحتاج إما لقوة سياسية تتمثل بالدولة، أو قوة جارفة داخل الفكرة نفسها، وفي كل حال فان الأفكار لا تحيا إلا إذا وجدت من يؤمن بها ويحملها ويدافع عنها.
وهنا تبرز وبالضرورة معادلة المثلث المصلحي متساوي الأضلاع، وللحقيقة فإن كل فكرة قابلة لأن تكون نواة لمشروع سياسي، والعكس كذلك، بما في ذلك المشاريع الفكرية والفلسفية، ولنا عبرة في مدرسة المعتزلة التي حملها النظام السياسي العباسي لفترة من الوقت قبل ان يتم اغتيالها والقضاء عليها كمدرسة  عقلية منفتحة، لصالح المدرسة النقلية الأشعرية التي أودت تماما بالعقل العربي الى وديان الضياع، بغياب العقل والتعقل والتفكير والتفكر لصالح النقل والمناقلة المعنعنة، مما أغلق كل باب أمام التطور العلمي لصالح انبساط السلطة الدينية الغيبية والتي استمرت حتى مع نهاية الاستعمار والاحتلال العثماني للمشرق العربي مطالع القرن العشرين.
اليوم ونحن نتلوا مرثاة الفكرة القومية العربية وقد ضمرت وكادت تتلاشى تماما إلا من زوايا التاريخ والتأريخ فإن المشروع السياسي العربي المستقبلي قد قطع شوطا ليس هينا في تكريس قطرية الدولة، دون أن تكون ثمة فكرة أصيلة يمكن الاعتماد عليها لتشكيل هذا الواقع الجديد، مما يبقي احتمال الفشل قائما إلى أبعد مدى..
وها نحن اليوم نراكم هذا الفشل والتفشيل، فلكل دولة عربية قطرية صراخها المدوي " انا أولا "، فيما الإحتلال الصهيوني يقضم الشعب العربي الفلسطيني على مرأى ومسمع تلك الأقطار متلببة بعباءة "أنا أولا.." بينما ذهبت كل أكاذيب العرب والعروبة الى مطحنة الشعارات والأحلام الزائفة، وأكاذيب الوحدة العربية الوضيعة.