نحن دولة تعدّل الدّستور

نحن دولة تعدّل الدّستور
الرابط المختصر

في يوم مّا، في بدايات الحراك الأردني الأخيرَ المُطالب بالإصلاح، كتبتُ شيئاً عن الدّساتير. كانت فكرَتي أنّ الدساتيرَ ليسَتْ نصوصاً حادثةً منزّلة، وإنما يضعها الناس لتحسين نوعية حياتهم وتحقيق المزيد من إنسانيتهم. وقلتُ إن الدستور الذي يضعه الناس، يُمكن أنْ يغيره الناس أيضاً، مثلما تتغيّر أفكارهم كما هو طبع الأشياء. ولدى اطلاع بعض الأصدقاء على تلك الأفكار، اقترحوا عليّ عدم نشره، وشككوا في إمكانية عبورها إلى النشر، وقد احتجّوا يومها بتصريحات أصدرتها أكثر من جهة رسميّة تقول إنّ الدستور "خط أحمر"، واستخدم البعض مفردة "العبث" بالدستور، في إلماح إلى أنّ محاورة الدّستور فعلٌ صبيانيّ غير محمود. لكنّ تلك الفكرة وجدت طريقها إلى النشر بعد أن تدخل العقل العمَلي والواقعي، فوضع الدستور في مكانه الطبيعيّ باعتباره موضوعاً قابلاً للتفاوض أيضاً.

لن أتحدّث الآن عن التعديلات المُقترحة على دستور الأردن، مدحاً ولا انتقاداً. وأعرف، بل يجب أن تثير هذه التعديلات حواراً وتستدرج وجهات نظر في إطار نرجو أن يكون صحيّاً وطباقاً للحرص على الأفضل والأجدى. لكنني لا أخفي سروري الشّخصي بالفكرة، بالاجتراء على محو الخطوط الحمراء من حول الأشياء، ووضع كلّ شيء قيدَ التداول والمراجعة، والإفلات من عَقلية التحريم المُطلق والتابوهات.

في هذا البلد صّغير الحجم، كبير الطموح، لا بديل عن إدامة الحركة والتطوّر ومحاورة البدائل كل الوقت وبلا كلل. وفي وقت ربّما تجد فيه بعض الدول مصلحة في الجُمود وتحنيط الوضع الراهن بسبب ركونها إلى هِبات الطبيعة والموارد، فإنّ الأردنّ لا يملك هذا الترف، ويكون فيه خيارُ الجمود والاستسلام لإرادة البعض إبقاء الأمور على ما هي عليه مَقتلاً وانتحاراً –ببساطة لأننا لم نصادف وضعاً واحداً يغرينا بالاطمئنان إليه والوقوف الطويل عنده. ولذلك، ظلت فرصة هذا البلد في البقاء معتمدة على إدامة التطور، والتجريب، والتغيير، والجُرأة. ولأنّ ثروة الأردنّ الأغلى هي مورده البشري، أي العقل، فإنّ شيئاً لا يُهدر ثروة الأردن ويفقره أكثر من إغلاق عقل مواطنيه، واعتقال مخيلاتهم، وإطفاء أحلامهم وطموحهم إلى شيء جديد جميل ينتظرونه غداً.

وفي الحقيقة، ينطوي الأردنّ في هذا الجانب بالتحديد؛ في جانب صناعة العقل المتنوّر والمنفتح على التغيّر واستيعاب المعرفة والأفكار، على إمكانية تشكيل نموذج خاص ومتفرّد، مالك لثروة عالية أثمَن من الماديَات، وقادرة أيضاً على توليد الماديّات. وإذا استطاع الأردن أن يستوعب، ولا ينكص عن مواجهة الاستحقاقات أيّاً كانت، ومنها مراجعة استراتيجياته وما يعتبره المتحجّرون ثوابت، فإنه يكون في الطريق الصحيح نحو اجتراح ثقافة إيجابية، قابلة للتعبير عنها بتجليات عملية محسوسة وقابلة للحياة.

تعديل الدستور ليس نهاية المطاف، ولا آخر سطر في الحكاية الأردنية، وإنما المقصود في الأساس هو الشروع صادق النيّة في إعادة ترتيب العلاقات بين السلطات، وبين المواطنين، وبين المواطنين والسلطات، بحيث نَلمسُ نهوض روح وطنية جديدة سماتها التفاؤل والتعاون. وأن يكون التنافس الإيجابي بين الأطراف هو السائد وليس استقواء طرف على آخر وإحباطه، أو سعي سلطة إلى حجزَ المساحات لنفسها، وكأنّ الوطن أرض بلا صاحب يحاول أحَدٌ جعلها ممتلكات خاصّة.

حتى يكون للتعديلات الدستورية معنى، أو لأي خطوات إصلاحية أخرى، فإنها يجب أن تُترجم إلى إحساس الشارع الأردني بالتغيير، وخلق شعور لدى كل أردنيّ بأنّه صاحب حصّة وشريك أساسيّ في كل مُقدرات بلده وبنفس المقدار، وبحيثُ يكون انتماؤه الأول والأعلى إلى البلد وحدَه. وفي الأقوال الحكيمة أن وطنَ الإنسان هو المكان الذي يشعُر فيه بالكرامَة والطمأنينة. والغاية النهائية لكل الأوطان هي أن تكون حاضراً مُحترماً على خريطة العالم، بعرض أجمل وأبرَع ما في مواطنيها.

سنكونُ نحن الأردنيين ما نستحق أن نكونه، إذا وجدنا وسيلة للتسامي عنْ الانتماءات المُعتادة إلى العائلة والعشيرة والفئة، فقط لأنّها تقدّم بديلاً عَن الحاضنة الواسعة والطبيعية التي يجب أن تكُونها الدّولة. وسَيلزم اتباع النصّوص بجهد عَمليّ مُخلص على الأرض لإعادة تعريف المواطنة والمواطن. لكن بوسعِنا الآن أن نقول بافتخار: نحنُ أمة لا تخافُ من الخطوط الحمراء، نحن دولة تُجري تعديلات دستورية.

الغد