"مُحدثو النعمة": من الاقتصاد إلى السياسة

"مُحدثو النعمة": من الاقتصاد إلى السياسة
الرابط المختصر

يحدثونك عن "محدثي النعمة" بوصفهم الشاهد الحي على "انحطاط السلوك الإنساني" الناجم عن تبدل المواقع الطبقية والاجتماعية لأصحابه ، والحصاد المر للانتقال المفاجئ - غالباً - من موقع إلى موقع ، من خندق لآخر ، ومن معسكر إلى معسكر.

ما يصح في الاقتصاد و"الاجتماع" ، يصح كذلك في عالم السياسة والسياسيين ، فكم قرأنا عن أبناء فئات برجوازية مترفة ، اختاروا طرق الكفاح السياسي والعسكري الوطني والاجتماعي ، هؤلاء كنّا نطلق عليهم ذات يوم تعبير "المنسلخون طبقياً ، في إشارة إلى نقلتهم النوعية تلك ، بعضها سرعان ما أعاده الفشل والإحباط "إلى قواعده سالما" ، وبعضهم الآخر مضى في طرقه الجديدة حتى نهاية الشوط ، وأحيانا حتى الشهادة خصوصا بعد صعود الإسلام السياسي المسلّح.

الاتجاه المعاكس لهذه التحولات كان قائماً أيضاً ، بل ويمكن القول أنه كان راجحاً ، ذلك أن كثيرين ممن امتشقوا سلاح الإيديولوجيا وإيدولوجيا السلاح ، سرعان ما انتقلوا إلى مواقع خصومهم فكرياً وسياسياً وعملانياً ، وفي غالب الأحيان ، كانوا أشد تطرفاً من خصومهم السابقين ، وتلكم بعض الأمثلة على ما نقول:

في لبنان: أجرى سعد الدين الحريري ، الذي لم يكن يوماً محسوباً على اليسار (ولا حتى على اليمين) مراجعة سياسية بعد سنوات خمس من الانغماس الاضطراري في "معمعان" العمل السياسي والوطني ، إلى أن انتهى به الأمر إلى مصالحة سوريا ومراجعة "اتهاماته السياسية" لها بالمسؤولية عن جريمة اغتيال والده ، بل واعتذاره غير الصريح عن سلسلة الأخطاء التي قارفها وتياره ، تيار المستقبل ، بحق سوريا ولبنان....بعض مستشاري الحريري ونوابه وإعلامييه ، من ذوي الخلفيات اليسارية والشيوعية السابقة ، كانوا أشد تطرفا وغلواً منه في نقدهم لسوريا وحلفائها بل ولتاريخهم الشخصي ، هؤلاء يقفون اليوم في موقع المعارض لتحولات الحريري ، حتى أن خصوم "المستقبل" باتوا يطلقون عليهم وصف "التيار المتصهين" ، في إشارة إلى حلفهم الوثيق مع متطرفي القوات اللبنانية والكتائب....هؤلاء يتحولون إلى عبء على رجل هبط بالبراشوت على العمل السياسي والوطني ، بدل أن يكونوا ذخراً له.

في فلسطين ، أفادت الأنباء خلال اليومين الفائتين أن الدكتور سلام فيّاض طلب إلى "جماعة جنيف" نزع صورته وسحب اسمه من حملتهم الموجهة للرأي العام الإسرائيلي والتي اتخذوا لها شعاراً: "نحن شركاؤكم". وفي التفسير أن الرجل الذي قيل فيه أنه هبوط بالبراشوت أيضا على العمل السياسي والوطني الفلسطيني ، استكثر على نفسه "لغة التسول والتوسل" التي طبعت خطاب "الجماعة" ومبادرتهم وأنه استهجن أسلوب الاستجداء الذليل في الترويج للحقوق الفلسطينية. الغريب أن أركان الجماعة والمبادرة والحملة إياها ، هم من ذوي المواقع القيادية الأولى في أحزابهم اليسارية سابقاً ، فيما رئيس الحكومة "اليميني" القادم من "البنك والصندوق" يحيط نفسه بوزراء ومستشارين من الحزب الشيوعي والجبهتين الشعبية والديمقراطية "فدا" ، حتى أنه لم يبق فصيل يساري أو ماركسي واحد ، من دون أن يرسل بمستشار أو وزير أو ناطق إلى فريق الرجل التي نشأ وترعرع في كنف المؤسسات الإمبريالية الأكثر ضراوة في النهب والاستغلال (؟،)

في العراق ، قلة قليلة من أصدقائنا الشيوعيين القدامى الذين حين تسأل عنهم تراهم في مواقعهم أو في مواقع منسجمة مع إرثهم وما يمكن اعتباره تطوراً طبيعياً لأفكارهم وانتماءاتهم السابقة ، البقية انقبلوا على هوياتهم وتاريخهم انقلاباً جذرياً شاملاً ، هذا التحق بالتيار الصدري وانخرط بنشاط في حروبه الميليشياوية ضد العرب السنّة والفلسطينيين ، وذاك بات ذيلا لزعيم قائمة كردية تبعاً لأصوله وجذوره الكردية ، وثالث قريب من "الصحوات" ورابع يعمل عند علاوي وخامس وسادس وسابع عمل لدى بريمر ومن خلفه من المندوبين السامين للاحتلال الأمريكي. أين اليسار والشيوعيين (بل وحتى القوميين) العراقيين الذين ملأوا الأرض والسماء ذات يوم ؟ تفرقوا وذهبت ريحهم وباتوا جزءا من ماكينة الانقسام الطائفي والأهلي ، والمؤسف أن معظمهم أصبح "الترس" الأكثر مضاءً وتطرفاً في هذه الماكينة.

في الأردن ، يحدثونك عن "وزير محافظ" ، تكتشف بعد حين أنه أكثر "حداثة" من وزير "ثوري سابق" ، وأكثر انفتاحاً على "الآخر" من مسؤولين "عصريين" لم يمض على مغادرتهم مواقع "الآخر" سوى أشهر معدودات...تقرأ لشخصية سياسية مغرقة في إقليميتها إلى الحد الذي تنسى فيه أنها نشأت وترعرعت قوميّاً ، بل ودفعت ثمن انتماءاتها السابقة بضع سنوات من العمر في السجن ، تقرأ لكاتب نشأ في أحضان اليسار القومي التقدمي ، وتكاد رائحة النفط وبراميله ودولاراته تزكم أنفك وتمنعك من إكمال قراءة المقالة التي لا تزيد عن خمسمئة كلمة فقط.

ما ينطبق على لبنان وفلسطين والعراق والأردن ، ينطبق على دول ومجتمعات عربية عديدة ، فنحن نتحدث عن ظاهرة عربية بامتياز ، حتى لا نقول ظاهرة إنسانية (أو بالأحرى غير إنسانية) ، ومن يعش رجباً يرى عجبا ،.

الدستور

أضف تعليقك