في فاعليّة المنظور الفلسطيني للاهوت المسيحي
عمل اللاهوتيون الفلسطينيون، منذ مدّة، على محاولة الردّ على هرطقات مسيحيين عديدين في الغرب، حرّفوا الكتاب المُقدّس لخدمة مصالح سياسية وزيادة شعبيّتهم. عمل أولئك في الأساس على مخاطبة الغرب من خلال نقاشات عقائدية في مؤتمرات، مثل "المسيح أمام الحاجز"، الذي أقامته كلّية بيت لحم للكتاب المُقدّس، ومؤتمر "لاهوت الأرض"، ونشاطات مؤسّسات مثل "السبيل" الخاصّة باللاهوت التحرّريّة، وغيرها. حاولت تلك النقاشات وضع الأسس العقائدية للردّ على المتصهينين من مسيحيّي الغرب.
لكن ما حدث منذ "طوفان الأقصى"، خاصّة منذ عظة الميلاد لراعي كنيسة الميلاد اللوثرية في بيت لحم القسّيس منذر إسحق، زاد بصورة كبيرة الاهتمام العالمي بالمنظور المسيحي الفلسطيني للكتاب المُقدّس، فقد أصبح كلّ من رئيس كلّية بيت لحم للكتاب المُقدّس جاك سارة، وعميد الكلّية الأكاديمي القسّيس إسحق، مدعوَّين إلى الحديث أمام الكنائس الإنجيلية في أميركا وجنوب أفريقيا، وإلى زيارة البيت الأبيض والتنقّل في أروقة الكونغرس.
عندما قدّم القسّيس منذر إسحق عظة عيد الميلاد، انتشر البثّ في نطاق واسع، فجاءته الدعوات إلى إجراء مقابلات وزيارات، وإلى المشاركة في المناسبات العامّة، وكذلك، إلى الآخرين من حوله. تابع نحو عشرون مليون مشاهد في مواقع التواصل الاجتماعي العظة من خلال الصفحات الخاصّة بالسفير الفلسطيني لدى المملكة المتّحدة حسام زملط، التي بثّت حيّة.
كما أُجبر رئيس أساقفة كانتربري على التراجع عن قراره مقاطعة القسّيس إسحق لأنّه شارك في المنصّة مع الناشط البريطاني جيرمي كوربين، فقد انتقده إسحق في لقاء مع صحيفة غارديان، ما أدّى إلى نشر رئيس أساقفة كانتربري كبير الأساقفة جستين ويلبي اعتذارٍ علنيٍّ عبر منصّة إكس، وتبعته مكالمة هاتفية، وصفها القسّيس إسحق بأنّها كانت دافئة وإيجابية. وكان القادة المسيحيون الفلسطينيون يحاولون تشجيع زملائهم المسيحيين، في جميع أنحاء العالم، على عدم السماح لقلّة باختطاف الإيمان المسيحي. وبذلك، كانوا يدافعون عن حقائق الكتاب المُقدّس، التي جعلت عمل القادة المسيحيين في الشرق الأوسط أكثر صعوبة.
كانت رسالة إسحق مُستنِدة إلى الكتاب المُقدّس، لكنّها كانت غاضبة، وليست تصالحية، وركّزت على رفض دعم المتصهينين المسيحيين في العالم، لا سيما في الولايات المتّحدة، بشكل أعمى عمليات الإبادة الجماعية الإسرائيلية للفلسطينيين، خصوصاً في غزّة. لكنّ المفاجأة الكبرى كانت كيف شكّلت الرسالة اللاهوتية من منظور فلسطيني اختراقاً في العالم العربي، والتي غطّت كلّ ما جرى عبر وسائل الإعلام، المرئية والمسموعة والمكتوبة، التقليدية والرقمية، وبشكل واسع شمل منابر عربية وإسلامية معروفة، تسابقت إلى إجراء لقاءات مع القسّيس الفلسطيني من بيت لحم، ومع آخرين.
سجّلت الصحافية منى العمري "بودكاست" (ساعتين) بالعربية مع القسّيس الفلسطيني، وكان له التأثير نفسه، تقريباً، الذي أحدثته خطبة عيد الميلاد في الجماهير الغربية. جرى تسجيل "البودكاست" الصوتي/ المرئي الطويل في منصّة أثير، وتابعه 140 ألف مستمع في موقع يوتيوب فقط، في حين وزّع "البودكاست" بين منصّات أخرى. أصبح مرجعاً لكثيرين، فشمل عرضاً مفصّلاً للقضايا اللاهوتية بشأن المسيحية وفلسطين، وكيف اختطف المسيحيون الصهاينة اللاهوت لأغراض سياسية.
مؤكّد أنّ المحاولات اللاهوتية الفلسطينية لمناقشة الصهيونية المسيحية لم تبدأ مع القسّ إسحق. وكان رئيس كلّية الكتاب المُقدّس في بيت لحم بشارة عوض (استشهد والده إبّان النكبة عام 1948) قد بدأ مؤتمراً دولياً يعقد كلّ سنتين بعنوان "المسيح عند الحاجز"، انطلق في بيت لحم في 2010، وناشد الإنجيليين الأميركيين، وغيرهم من الإنجيليين، أن يأتوا إلى بيت لحم ويُجروا حواراً لاهوتيّاً معهم. كما نظّم راعي الكنيسة المعمدانية في القدس الشرقية القسّ أليكس عوض مؤتمراً أكثر تخصّصاً بعنوان "لاهوت الأرض". وفي 1989، نتيجة للانتفاضة الفلسطينية الأولى، أُنشئت مؤسّسة سبيل، وهي حركة لاهوتية تحريرية مسكونية شعبية بين المسيحيين الفلسطينيين، وقادها القسّ الأسقفي في القدس نعيم عتيق، مستوحاة من حياة يسوع المسيح وتعاليمه، سعت إلى دراسة لاهوت التحرّر، وتعميق إيمان المسيحيين الفلسطينيين، وتعزيز الوحدة بينهم، وقيادتهم للعمل من أجل العدالة والسلام. ولاحقاً، اختارت مجلة المسيحية اليوم كتاب المقدسي حنّا كتناشو "قراءة إنجيل يوحنّا بعيون فلسطينية" أحدَ أفضل خمسة كتب للعام 2022 من الكنيسة العالمية.
وقد شكّل مؤتمر "المسيح أمام الحاجز" في بيت لحم، أواخر الشهر الماضي (مايو/ أيّار)، فرصة جديدة للحوار مع الخارج والداخل. إضافة إلى ضيوف أجانب كثيرين، شارك لاهوتيّون فلسطينيون، شباب وشابّات، قدّموا دراسات وأوراق عمل مهمّة، كما وفّرت قراءة كلمة لرئيس فلسطين محمود عباس للمؤتمر الغطاء الوطني الرسمي.
وتحدّث رئيس كلّية بيت لحم للكتاب المُقدّس جاك سارة بعبارات يمكن للجميع فهمها، مُكرّراً إحدى أشهر آيات الكتاب المُقدّس، فقال إنّ عديدين من قادة الكنيسة الغربية يبدو أنّهم نسوا كلماتها. تلا سارة الآية: "هكذا أحبّ الله العالم"، وعلّق بأنّ تلك المحبّة الإلهية شاملة: "إنّ محبّة الله للجميع تشمل الفلسطينيين وليست مشروطة". كان المؤتمر مفيداً في التواصل، وأُنشئت مجموعة نواة جديدة بدعم واسع من القيادة الإنجيلية العربية التي قرّرت أن تخطّط لحمل رسالة مفادها أنّ محبّة المسيح ورحمته للجميع. الفكرة الجديدة وراء هذا الجهد الدفاع عن الحقّ الكتابي. تلتزم المجموعة الجديدة بمساعدة زملائهم المسيحيين في تحفيز الناس، وأن يصبحوا كما طلب المسيح من الجميع "صانعي سلام يبحثون عن العدالة والرحمة".