بين المنسف والحج

الرابط المختصر

ذلك جرح فتقه إعلان مبتذل لمطعم يقدم للجمهور أحدث ما توصل اليه فن طبخ المنسف الذي أصبح في السنوات العشرين الأخيرة يمثل جزءا عزيزا من الهوية الوطنية الأردنية وتراثه المطبخي والذي يمثل المنسف فيه درته وتاجه وتميز هويته التراثية والثقافية.
وأقول "جرح " لأن الإعلان المبتذل أراد إظهار الأردنيين وكأنهم شعب متوحش وهمجي وليس له أي حظ في أصول تناول الطعام أو ما يمكن تسميته بــ"آداب المائدة "، فكيف إن كان هذا التشويه وصل الى آداب وأصول "المنسف " الذي تجاوز كونه مجرد طعام ليصبح لدى الأردنيين بما يشبه المعجم الكامل لأخلاق المجتمع عدا عن معانيه ومراميه الأخرى.
انتفض الكثيرون ضد هذا الاعلان المبتذل وذهبت الحمية الوطنية بالبعض للدعوة لمقاطعة أصحاب المطعم الذي استضاف ــ ربما ــ تصوير الفيلم الدعائي، لكن المفاجأة أن أصحاب المطعم أنفسهم أصدروا بيانا لم يقولوا فيه شيئا غير انهم قاموا باستضافة حفلة التصوير وجددوا ترحيبهم بالجمهور الذي يعشق اللحم واللبن ليتذوقوا منسفهم.
والقضية ليست في قصة "المنسف المتوحش " والوحوش الذين ظهروا في تقاصيل الفيلم الدعائي وما جلبوه من أذية لطعام يمثل لدى الاردنيين هويتهم الوطنية التراثية، وإنما في انشغال الشعب نفسه في الدفاع عن منسفهم الأثير بل في تجاهلهم لموت الحجاج الأردنيين في بلاد الحجاز حينما مورست ضد الحجاج غير النظاميين أنواعا عديدة من الحجز والمنع وعدم تقديم الخدمات لهم لعل أبسطها ــ وفقا لمرويات الحجاج المتضررين ــ منع تنقلهم بالحافلات وإجبارهم على المي والتنقل بين المناسك وعلى الاقدام وتحت الشمس اللاهبة..
مات عشرات الحجاج الاردنيين ميتة مجانية، وحتى هذه اللحظة لم نعرف عن المسؤول عن هذه المجزرة، هل هي السلطات السعودية باجراءاتها العقابية المبالغ فيها، أم الشركات التي قامت بنقلهم وتركتهم يواجهون مصيرا مجهولا أفضى بالعشرات الى الموت، أم الحجاج أنفسهم الذين ارادوا الالتفاف على أنظمة الحج والحصول على حجة خارج القوانين السعودية..
أسئلة متلاحقة يمكن لأي منا طرحها دون تلقي اجابات قاطعة ومقنعة، لكن تفاعل الأرادنة مع المجزرة في الحج على مواقع التواصل الاجتماعي كان أقل اهتماما وحضورا من تفاعلهم مع دعاية العبث بالمنسف باعتباره الطعام المقدس، وهنا يتغلب هذا الطعام بقدسيته الشعبية على حياة الانسان باعتبارها أقل قدسية حتى وإن انتهكت هي الأخرى في مكان مقدس وفي موسم مقدس.
ما يدفعني للمقاربة بين الصورتين أن السوشيال ميديا كشفت عن حجم ما نحن فيه من هوامش اهتماماتنا بقضايا لا تحمل الكثير من القيمة مقابل تهميش القضايا الاكثر قدسية على نحو وفاة نحو مئة حاج أردني في ظروف لم نعرف عنها شيئا، ولم نعرف من المتسبب، لكننا نعرف ان هؤلاء جميعهم ماتوا مجانا وبلا ثمن وبلا هوية للقاتل.
وبالنتيجة فان قضية العبث بالمنسف طويت تماما وكذلك قضية موت مئة حاج أردني طويت هي الأخرى، لكن الذي بقي وسيبقى هو أن اهتماماتنا الشعبية بالقضايا الأكثر تأثيرا في حياتنا اليومية لا تزال مجرد قضايا ثانوية لا تحظى باهتمامنا في منصات التواصل الاجتماعي.

أضف تعليقك