تعدّ المقاربة بين الثقافة والسياسة مقارنة ظالمة، فعلاً؛ فالثانية تتمتع بسلطةٍ مادية مباشرة، لها أوجه متعددة، منها ما هو مالي واقتصادي وعسكري وإداري، وتسندها منظومة كاملة من القوانين والتشريعات، وتتلاقى عندها مصالح قوية. وهي نفسها مصدر نفوذ وقرار، وتملك أن تحدث أثراً فورياً على المصائر، وتستطيع كذلك أن تحدث تحولات عميقة على المدى البعيد. وفي الحالتين، يمكنها أن تشمل بهذا الأثر الجماعة ككل، أو تخص به بعض الأفراد على وجه التعيين. وتفعل ذلك بغض النظر عن إرادة من تشملهم بتأثيرها.

وبالمقابل، للثقافة أثر على المدى البعيد، بطيء، لكنه عميق. وإن تأتّى لها أن تمارس تأثيراً سريعاً، فعلى الأغلب سيكون على أساس فردي، تبعاً للاستعداد المسبق لدى المتلقي المستهدف، وبطوعه.

هيمنة السياسة على الحياة العامة في المجتمعات، لا يعدلها شيء سوى هيمنة الاقتصاد. وحينما نقول «الاقتصاد» لا نعني، هنا، الدورة الإنتاجية والخدمية الضرورية لتأمين سلسة في المجتمعات، لكن تلك المنظومة التي تفيض عن هذه الحاجة، بوطأتها اللصوصية على مستويات حياة الأفراد والتزام مجتمعاتهم بهم، التي تفاقمت مع هيمنة قطاعات الاقتصاد الوهمية، وأضحت تمتلك سلطتها الفادحة، التي تبرر نفسها بضرورتها لتأمين عيش مقبول للأفراد. طبعاً، في الغالب عبر انتهاج أساليب تحرمهم من إمكانية الحياة.

وفي الحقيقة، فإن الفارق ما بين السياسة والاقتصاد من جهة، وبين الثقافة من جهة أخرى، هو نوعية السلطة. فالسياسة تملك سلطة الأمر والفرض والقسر، بينما الاقتصاد يملك سلطة خلق الحاجة، وإخضاع المجتمعات والأفراد لسطوتها، لا إلغائها من حياتهم. في حين أن الثقافة تملك سلطة إدارة الخيارات الروحية. وبهذا تبدو كأنها غير ذات أثر مادي على حياة المجتمع والأفراد؛ لا يمكنها أن تؤمنهم في وظائف، ولا بوسعها أن تفتح بيوتاً، أو تسد حاجة.

وفي الواقع، فإن الثقافة رغم هول ما يعانيه أهلها، على العكس من ذلك تماماً. منتجة، وكريمة مع المجتمع الإنساني والأفراد، فعدا عن كونها تُستثمر وتُستغل من قبل السياسة والاقتصاد اللذين يأكلان منها ولا يطعمانها، تمد المجتمعات والأفراد بالقوة الروحية والفكرية والنفسية على مكابدة الحياة، ومواجهة الإحباط وصنوف اليأس وضيق الحال الذي تخلقه السياسة والاقتصاد. وهي من خلال هذا وذاك، وعلاوة على هذا كله، تخلق وظائف، وتفتح بيوتاً، وتطعم أفواهاً.

وأبسط الأمثلة على ذلك، هو ما تقوله أرقام جمعية «أصدقاء شكسبير» البريطانية، ومنها أن في أنحاء العالم حالياً ما لا يقل عن ثمانمئة ألف شخص، يتعلق رزقهم ومصدر دخلهم، على نحو مباشر، بالكاتب الشهير الذي تمر أربع مئة عام على وفاته في نيسان المقبل؛ وهؤلاء يبدؤون من صانعي وباعة التذكارات، ولا ينتهون بالكتاب والناشرين والمكتبيين، والمديرين والنقاد والمؤلفين ووكلاء السفر، ويمكن أن نضيف إليهم الفنانين والمشتغلين في المسرح والسينما والإذاعة والتلفزيون والتعليم، وشبكة الإنترنت والجوّال.

وشكسبير؛ غير النتفع شخصياً من «تجارته» ليس رب العمل الوحيد الذي قدّمه الحقل الثقافي ويُشغل الأفراد ويثري المجتمعات من دون أن يشترط امتلاك سلطة مباشرة عليهم. وهو كذلك ليس الوحيد الذي تجري منحته مثل الصدقة الجارية، لا تموت بموته، ويشكل مؤسسة لا تنهار بعوامل «اقتصادية» مصطنعة، وافتراضية. ويتزايد عدد الأشخاص الذين يشغلهم ويأويهم ويطعمهم، عاماً بعد عام. ولو حسبنا دوره هذا خلال أربعمائة عام من تاريخ وفاته لكنا نتحدث عن نحو نصف مليار إنسان.

طبعاً من يترزقون مِن اقتصاد المخدرات وتجارة السلاح والقروض البنكية المدمرة أكثر من ذلك بكثير!

وبهذا، فإن المبدعين من المثقفين، منذ بدء الخليقة ورسام الكهوف إلى اليوم، يوفرون وظائف، ويفتحون بيوتاً، ويطعمون أفواهاً جائعة. وقيمة هذا في بيوت المال والمضاربة بالأوراق المالية لا يمكن حسابها. أما قيمتها الإنتاجية وفي الاقتصاد الحقيقي لا يمكن اختزالها بالأرقام المالية، فهي بالأساس حصنت الإنسانية في المجتمعات، وأسندتها أمام همجية المال، وطغيان الثروات الشخصية الجائرة والمدمرة.

وأكثر من ذلك، فإن المبدعين من المثقفين يؤنسون أرواحاً وحيدة مستوحشة في عالم همجي، ويحاورون أنفساً حائرة لا تجد من تتحدث إليه، ويهدون أبناء ضالين عبر العصور والزمن. وهذا لا يمنعهم من أن يكونوا مساهمين في السياسة والاقتصاد، وإن كانت مساهماتهم يتم التعدي عليها، بتجاهل معناها النهائي.

لذا، تتشرف إنسانية المرء بالعمل لدى شكسبير، أو أن يكون رب عمله دستويفسكي.

ياسر قبيلات: روائي وقاص وسيناريست. عمِل مديراً للنصوص وتطوير الأفكار في المركز العربي للخدمات السمعية والبصرية، ونال جائزة النص المتميز في المهرجان العربي للإذاعة والتلفزيون في تونس عام 2005.