موجة حَرّ..!

موجة حَرّ..!
الرابط المختصر

قبل أسبوعين أو نحوه، قالت وسائل الإعلام إن البلاد ستتعرض لموجة حرّ قادمة من الهند. موجة حَرّ؟! لا يشبه هذا الصَّهد اللعين الذي أطال المكوث شيئا من طبع الأمواج التي لا تكاد تمسّ الشاطئ حتى تنسحب، بل هو حَرٌّ فحسب، بلا موج ولا رطوبة؛ وضيف ثقيل الظل حسبناه عابرا ويمضي، فمدّد رجليه وتمطط، وصار هو صاحب البيت، ولذلك بالضبط يفزع الأردنيون في المساءات إلى ضفاف الشوارع التي بلا موج أيضاً، ويتركون له البيوت.

لكن آخرين شرعوا بالتكيف مع المناخ الجديد الذي ناخ وأعجبه المقام فأقام. ويبدو أنهم استشرفوا استمرار "الموجات" أو استقرار الحر، فاستعانوا على البلاء بالمكيّفات، من باب خلع السنّ ووجعه مرة واحدة. أما الذي لا يملك ثمن المكيّف، فلا يستطيع التكيُّف ويبقى بلا كيف، ويحاول مشاغلة نفسه والتحايل على الطقس بتحريك الهواء الساخن الراكد بالمراوح، فيصبح هواءً ساخناً متحركاً، ويراوح الحرّ في المكان!

لسنا معتادين على استقبال الحر كل هذه المدة، ولا مهيئين باللوجستيات التي تكسر حدته وتقلم أظفاره. ولذلك، ترافق إطباق الحرّ على الأنفاس بانقطاعات الكهرباء، وهمود برادات المياه وتلف الأطعمة في الثلاجات. وشكا صديق من فقاعة حرق على راحة يده، قال إنها بسبب مقود سيارته الذي تحول تحت الشمس اللاهبة إلى سيخ من الحديد المحمّى. وأنا، لدغتني القطعة المعدنية في حزام أمان السيارة مثل أفعى متحفزة عندما لامسته في الظهيرة، وكذلك المقود والمسند القُماشي. وفوق العصبية الطبيعية في سواقينا، جاءت "عصبية الحرّ" لتضيف إلى "عصبية ضيق الحال"، و"عصبية الصيام"، و"عصبية الازدحام"، لتصبح الشوارع لا تطاق.

وقد هربت من الحرّ الذي احتل البيت بعد إفطار رمضان إلى شرفة المنزل، فشعرتُ للحظة بأنني أعيش في غير المكان، وفي جو يشبه مناخات "كافكا" الكابوسية. كان الشارع خاويا والهواء آسنا، وقد تمددت بقايا بقعة ماء اتخذت شكل جدول سائل من دون شيء يسيل فيها، وبدا كل شيء وأنه تجمّد. وحاولت استشعار أثر نسمة على رؤوس الشجيرات والياسمينة على السور، لكنها ظلت مرتخية أيضا وهامدة.

وتذكرت أول ما يكون قصص المغتربين في دول الخليج عن وجع الغربة في جحيم الحرّ. وبالطبع، كان مجرد تخيل الحياة في الطقس الحار، أو قراءة شيء مثل "نجران تحت الصفر" و"براري الحمى" يبعث على الغثيان، وأول شيء يخطر هو فكرة الاعتقال في قبة الفضاء نفسها، وبلا مفرّ.

لكن هؤلاء المغتربين أنفسهم، كانوا وما يزالون يتكيفون مع الحرّ، بالمكيفات وبلا مكيفات، لأنّ هناك شيئاً أقسى كان قد تمطط في منازلهم في الوطن، فهربوا منه. ثمّة العوَز الذي يستطيع أن يجعل رأس الواحد يغلي ولا يستطيع النّوم، تماما مثل الحرّ وأكثر. هناك على الأقل، يكون الجيبُ عامراً والمعدة مليئة. أما الجواب على الخيار بين العوَز والحرّ، فيجيب عنه إقبال الناس المستمر على السفر إلى أرض الحرّ، وإصرارهم على قطع الشوط حتى آخره من دون أن يدقّوا جدران أيّ خزّان.

وفكرتُ، من باب محاولة التفاؤل: ربما تصاحبُ هذا المدّ المتزايد من الحرارة تلك الفوائدُ التي نعرفها عن البلاد العربية الحارة. فغير ازدهار تجارة بائعي المكيفات، هناك ارتفاع مستويات المعيشة وحصة الفرد من الدخل القومي الكبير؛ وقدرة كل مواطن على اقتناء مكيف في سيارته، بل في سياراته كلها، وفي كافة غرف منزله غير المرهون للبنوك. وقبل كل هذا وبعده، لا بد مع الحرّ من وجود البترول، وبركاته ونقلاته.. و، هل لاحظ أحد بشائر التحوّل القادم المحمود: انتشار الجِمال، "سفن الصحراء"، وبيع حليب النوق على جوانب الطرق العمّانية؟! سبحان الله..!

على كلّ حال، لا أحد يرغَبُ بطول إقامة الحرّ بيننا من دون بترول ولا مال ولا من يحزنون، وكأنه لا ينقصنا إلا هذا. ولا يتساءلن أحد عن صمتنا كما تساءل أبو الخيزران: "لماذا لم يدقوا جدران الخزّان؟" لأنّ جدراننا ليست من الصفيح الساخن الذي قد يعد بالخلاص، وإنما من الهواء المائع الساخن، وهيهات أن يسمع أحدٌ دَقّاً على الهواء..!

الغد