مهرجان جرش: تواطؤ الحكومة والإسلاميين
في عام 2013، نجحت حملةٌ شعبيةٌ في إلغاء "مهرجان القلعة" قادها أهالي الجبل وشدّت من أزرها تيارات سلفية لها ثقلها في الحي، ومما رُوي حينها أن وزيرين في الحكومة –يُعرف عنهما اهتمامهما بالثقافة والفن- ذهبا برفقة النائب الذي يمثّل تلك المنطقة في محاولة أخيرة منهم لإقناع المحتجين بإبقاء المهرجان.
يُنقل عن حاضرين لتلك الجلسة بأن قادة الحملة لم يبذلوا جهداً يُذكر في كسب النائب المذكور لصالحهم خلال الدقائق الأولى من النقاش، وأن الوزيرين لم يوفّقا في المحاججة والرد على التحريم القطعي للغناء، بحسب فتوى أحد الشيوخ المحاورين.
انتهت المسألة بخبر صغير نشرته وسائل الإعلام المحلية عن إيقاف المهرجان، من دون الالتفات إلى واقعٍ مرير؛ لا قوى اجتماعية فاعلة فيه إلاّ حركات الإسلام السياسي بفعل استبداد سلطة أنهت قدرة المجتمع على التفاعل والتأثير، وموقف النائب الفاقد للتمثيل والفعالية خير برهان على ذلك، وأن الأخطر هو تسليم النظام بتقاسم الأدوار مع "الإسلامويين"، حيث يستجيب لهم تارة أو يلوذ بالصمت تارة أخرى.
الصمت هو ما اختارته حكومتنا لمواجهة المعترضين على إقامة الدورة الحادية والثلاثين من "مهرجان جرش للثقافة والفنون" نهاية الشهر الحالي، وهو أمر ليس مبشّراً بالنظر إلى أن رموز الحكم جميعهم لا يملكون شجاعة أو معرفة أو حتى قوة شخصية تفوق ما لدى وزيري "حادثة مهرجان القلعة"، بل كلّنا يعلم أن هناك مسؤولين متطرفين أو مزاودين في ادعائهم "التدين".
وبالمناسبة لا تفتصر هذه المزاودة على رموز السلطة، إذ إن بعض الإسلاميين ممن ينتمون إلى "جبهة العمل الإسلامي"، أو إلى "حزب زمزم" يسخرون في السر من مواقف "إخوتهم" المعادية للفنون، لكنهم يحاكون مواقفهم ذاتها إذا اضطروا في العلن إلى التعليق على مهرجانات الأردن.
يفوت أعداء الفن، في صفوف النظام والإسلاميين، أن مهرجان جرش يستضيف مئة فعالية تقريباً كل سنة، تغلب على تسعين منها أمسيات لشعراء عرب وأردنيين، وعروضاً مسرحية غير تجارية، ومسرحيات أطفال، وندوات فكرية، وحفلات موسيقية لفرق تراثية محلية وعربية وعالمية، وأوبرا وموسيقى جاز وفلامنكو، تقدّم على المسرح الشمالي ومسرح جراسيا وساحة الأعمدة في جرش، وعلى مسارح المركز الثقافي الملكي في عمّان، لا يتمّكن أردني من متابعتها خارج "جرش".
الجدل العقيم الذي يثيره الإسلاميون يتمحور حول أقل من عشر ليالٍ لمغنين ومغنيات على المسرح الجنوبي، ولا معنى لجدالهم في ضوء تنظيم مئات الحفلات المشابهة في فنادق ومطاعم أردنية طوال العام.
أما التذرّع بأن "المهرجان يسهمُ في الفساد الأخلاقي والقيمي، وينشر سوء الأدب، وقلة الحياء"، كما يردّد بعض أساتذة كليات الشريعة الأردنية المخطوفة لصالح أكثر الخطابات تشدداً، فإننا إزاء مغالطة واقعية وأخلاقية وتاريخية، فهل يستطيع "حراس الفضيلة" أن يذكروا شعباً لم تهذّبه فنونه وتحضّره، وأوّلهم المسلمين الذين أطربهم أبو موسى الأشعري ورباح بن المعترف، وابن سريج وابن محرز، ومعبد ومالك الطائي وهؤلاء جميعاً وغيرهم العشرات ممن غنّوا في عهد النبي محمد وخلفائه الأربعة.
يعيد هؤلاء أيضاً أسطوانة "القتل والسفك والدماء التي يغرق المنطقة العربية"، وهي حجة في غير مكانها، إذ تعيش فلسطين تحت الاحتلال منذ 68 عاماً، أضيف اليها صراعات أهلية في سورية والعراق واليمن وليبيا، وليس هناك أقدم وأجدى من الفن تعبيراً إنسانياً ينشد الحرية والعدالة والجمال ويحتج على ظلم السلطة وجور الاستعمار، وينحاز إلى هموم الناس.
حملات "الإخوان المسلمين" وغيرها من التيارات الدينية لا تتعدى غايتها سوى كسْب شعبية غير مكلفة عبر تجييش الناس بدعاوى كاذبة ومجانبة للحقيقة، بينما تلتزم هذه الجماعات الصمت حين يتعلّق الأمر بدعم متضررين من سياسات الإفقار والتجويع والفساد التي تنفذّها الحكومات المتعاقبة.
تأييد مهرجان جرش لا يقع في باب المناكفة التي يتقنها في العادة أغلب الإسلاميين، وهو لا يحول دون انتقاد القائمين عليه لتطوير ذائقتهم الفنية أملاً بمشاركات أفضل، والتأكيد على ضرورة حفاظهم على المال العام حتى لو "لُفلف" التحقيق بشبهات فساد في الأعوام الماضية.
محمود منير: كاتب صحافي. محرر “تكوين” في “عمّان نت”.